تقتضي الواقعية الإعتراف بأن سوريا باتت الساحة المفتوحة التي تُدار من خلالها الصراعات الإقليمية والدولية وتُطلق عبرها الحروب المذهبية والإديولوجية. سوريا تعج بالمغامرين المُتاح لهم تجنيد المرتزقة وتشكيل الجبهات والأحزاب وفقاً للمعايير الروسية دون سواها من الدول الكبرى. إجتماعات الناتو الأخيرة في بروكسل واجتماعات قادة الأمن والدفاع والسياسة الخارجية لم تخرج، في ظلّ التوتر القائم بين روسيا والغرب، بأي خطط أو برامج تتمتع بالصدقية اللازمة، ففي حين أصرّت إدارة أوباما على تأكيد استمرار الإنسحاب التدريجي من مسؤولياتها، جابهت موسكو عزم المملكة العربية السعودية وتركيا وبعض الدول الآسيوية إنزال قوات برية على أرض سوريا بالرفض. موسكو تعتبر أنها اجتازت مراحل استعادة مكانتها الدولية وهي المعنية بمستقبل سوريا، وتتصرف بكلّ ثقة على أنها الطرف المؤسس للنظام الإقليمي الجديد في شرق المتوسط، ولن تسمح بأن تُستغل الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب لإخراجها ولو جزئياً من المعادلة أو مشاركتها في صنع هوية جديدة لسوريا ومن خلالها تحديد الدور الجديد للشرق الأوسط.
الضربات العسكرية التركية ضد «وحدات حماية الشعب الكردي» وما يُسمى بـ«قوات سوريا الديمقراطية» تمثّل فصلاً جديداً من الحرب الدائرة في سوريا. تركيا أخذت المبادرة بعد أن انتزعت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن مطار «منغ» العسكري في شمال حلب من تحالف الجماعات الإسلامية وقوات المعارضة. الجولة الجديدة من العنف تكشف عن دوافع متشابكة ومتضاربة للجهات الرئيسية الفاعلة في سوريا، الجماعات المعارضة تخسر الأرض لتستولي عليها وحدات الجيش السوري المدعومة من القوات الجوية الروسية مما يهدد بتدمير قوى المعارضة في شمال غرب البلاد عبر استعادة مدينة حلب وإقفال الحدود بشكل نهائي مع تركيا. هذا الأمر يشكّل ضربة لأنقرة التي ترعى المعارضة السورية بهدف قتال نظام الأسد والتوازن مع تنامي القوة الكردية في سوريا. الجيب الكردي الجديد والموحّد في سوريا يعني قطع خطوط الإمداد بين تركيا وفصائل المعارضة السورية، كما يعني دولة كردية على حدودها تلتقي مع دولة كردية أخرى في العراق على حساب الجماعات التي تقاتل النظام في دمشق.
المملكة العربية السعودية المتدخّلة في اليمن لديها ميل أيضاً للتدخل بقواتها البرية في سوريا وقد أكّدت ذلك من خلال نشر طائراتها في قاعدة أنجرليك التركية. القوّتان الإقليميتان الأساسيتان أكّدتا عزمهما المشترك على إسقاط نظام بشار الأسد كما أكّدتا موقفهما من صعود الدولة الإسلامية وهما تتهمان الدول الغربية بالتمسك بالأسد كأهون الشّرين مقارنة مع الدولة الاسلامية. إنّ أي تدخّل تركي أو سعودي لقوات برية في سوريا بصرف النظر إذا كان موجهاً ضد النظام أو ضد الدولة الإسلامية سيرفع من مخاطر مواجهة الحرس الثوري الإيراني والقوات الخاصة الروسية المتدّخلة داخل سوريا، وهذا ما دفع رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف إلى إطلاق إنذار إنّ أي استخدام لأي قوات برية أجنبية في سوريا قد يؤدي إلى جولة ضخمة من الصراع الإقليمي.
لقد رفع تصاعد الأزمة في سوريا شكوك كلّ من الرياض وأنقرة بنوايا واشنطن وجعلهما أقل إعتماداً عليها مما كانتا عليه في الماضي، وبقدر مماثل فإنّ واشنطن تبدو مترددة في الإعلان بشكل علني عن كسر تحالفها مع الدولتين الإقليميتين بالرغم من الشكوك التي تساورها حول دعم بعض المجموعات المسلّحة في سوريا والمتّصلة بالدولة الإسلامية. لقد إختارت واشنطن أن تسير وفقاً للمصالح الوطنية الأميركية على طريقة تعاملها مع الإتّفاق النووي الذي أجرته مع إيران واختيار دعم الميليشيات الكردية على اعتبارها الطرف الموازن للدولة الإسلامية في سوريا في الوقت الذي لا تُبدي أي ممانعة للمخططات السعودية والتركية داخل سوريا.
إنّ سماح الولايات المتّحدة بإقامة كيان كردي في شمال سوريا سيكون الخطوة الأولى لقيام كيان كردي مماثل في تركيا، مما سيفتح الباب أمام انقسامات كثيرة كتلك التي عاشتها تركيا سنة 1912 عندما بدأت ألبانيا بالإنفصال ومن ثم تلتها كيانات البلقان الواحدة تلو الأخرى وتلتها الدول العربية. وإذا تدخّلت تركيا لمنع قيامه فستدخل إلى المستنقع السوري كما أنّ التدخل البري السعودي لإسقاط الأسد سيسقط المملكة في المستنقع نفسه.
اللامبالاة الأميركية وسياسة التنصل ربما تتغيّر إذا كانت السعودية وتركيا جادتين في التدخّل في سوريا، فسوريا ليست بأهمية ما سينتج عن حرب بين حليفين قريبين من واشنطن من جهة وموسكو من جهة أخرى. ويبقى القلق الكبير ما إذا كات روسيا والولايات المتّحدة قد توصّلتا إلى إتفاق إبقاء الأسد في السلطة كخيار أقل سوءاً في لحظة الإضطراب السياسي الحالية سيما إنّ الناتو والدول الغربية ليسوا على استعداد للإنسياق وراء قوى إقليمية في مغامرة قد تُفضي فعلاً إلى حرب عالمية ثالثة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات