IMLebanon

البلد أحوج ما يكون إلى ترشيد «ثقافة المجاملة» لا وأدها

المدهش في الخطاب الأخير للسيد حسن نصر الله هو الحديث عن «مجاملة» سوف يتخفف منها ليقول رأياً يبدو أنه احتبسه أو اعتصره لسنوات، لكنه رأي لا يتعلّق، على ما أفصح عنه، بأحداث حصلت في زماننا هذا، إنّما بامتداد زمني لا يقل عمقه التاريخي عن قرنين ونصف، ولا يقلّ بعده الجغرافي عن بضعة آلاف من الكيلومترات عن المكان الذي تحدّث منه السيد. 

السؤال الأول الذي يطرح نفسه حينها، هل أن السيد نصر الله بتنحيته «المجاملة» على ما وصف به حتى نهار الأحد الماضي، امتناعه عن قول ما قاله كل هذه السنوات، يكون قد أقلع من الآن وصاعداً عن أدب المجاملة بالمطلق، أم أنه سيبقى يحتفظ لنفسه بالحق في تنحية المجاملات، واحدة بعد أخرى، مرة ليدلي برأيه بهذه الدولة ومرة بتلك، ومرة بهذه الملّة، ومرة بتلك؟ هل سنسمعه ذات مرة ينحّي «المجاملة» جانباً، لسرد التاريخ كما يراه منذ اجتماع السقيفة إلى يومنا هذا؟

السؤال الثاني الذي يطرح نفسه، بمناسبة حديث السيد عن «مجاملة» كانت تمنعه من قول ما قاله، إلى أن أفصح وباح، هل أن ما قاله السيد بعد تنحية المجاملة جانباً، هو موقف يسوقه من باب الخطاب العلمي، العلمي بالمعنى الاجتهادي الفقهي، أو العلمي بمعنى العلوم الاجتماعية على حد سواء؟ 

هل المقاربة التي قدّمها، سواء لحركة إحيائية أو مصفوفة حركات، أو لتركيبة كيانية اجتازت في الحد الأدنى مراحل ومنعطفات، أو لنظام حكم يطرح بالدرجة الأولى إشكالية شروط استدامته وأشكالها، أو للعلاقات الدولية والإقليمية، أو لمشكلة التعايش بين الجماعات الأهلية المختلفة، أو لمفارقات التداخل والتنافر بين الجغرافيا السياسية وبين الجغرافيا الثقافية في هذه المنطقة، يدخل في سياق أنه ملتزم في محور اقليمي – مذهبي بوجه آخر، أو أنه ملتزم نوعاً من الغيفارية الأممية المتعالية على أي تأطير مذهبي ديني أو قومي إثني؟ أو أنه قال ما قال بعد تحرره من «وطأة المجاملة» بوصفه خطاباً في علم الاجتماع التاريخي، أو في علم الاجتماع الديني، أو في الإسلاميات التطبيقية، أو كناشط مجتمع مدني، أو كناشط حقوق انسان أو داعية لا عنف؟ 

المشكلة تبدأ من هذا التعامل القاسي مع «المجاملة». كثيراً ما يجري التعامل مع المجاملة على أنها رياء، ومع الرياء على أنه تكاذب، ومع التكاذب على أنه عدو الحقيقة.

لكن «المجاملات» ضرورية في السياسة، ضرورية أكثر في المجتمعات التعددية إثنياً ومذهبياً. طبعاً، ثمة مجاملات موفقة وأخرى نافرة ومضحكة. ثمة مجاملات نافعة وأخرى عديمة النفع أو ضارة أو تؤدي عكس مرادها. لكن المجاملات لا غنى عنها. عدم تقدير قيمة المجاملات، واعتبارها مجرد أقنعة واهية يمكن إشاحتها للانتقال مباشرة إلى الشيطنة القصوى للآخر في لحظة هو بحد ذاته أمر خطير، ويستحق التوقف عنده. 

من مصلحة هذا البلد تحييد نفسه بشكل واضح، وقدر المستطاع، عن صراع المحاور الإقليمية، عن الصراع المذهبي الإقليمي. وهذا ينبغي أن يكون واضحاً ومفهوماً للجميع، لأن الحؤول دون تدهور الوضع في لبنان لينضم إلى نطاق الحرائق المشتعلة بضراوة في الإقليم هو في مصلحة اللبنانيين جميعاً أياً كانت تحيزاتهم في الإقليم. ولا يبدو، إلى هذه اللحظة، أن هناك رابطة سببية مباشرة، تجعل الوضع اللبناني يتدهور بشكل دراماتيكي على وقع التوتر المشتعل على ضفتي الخليج، لكن في الوقت نفسه، هذا الوضع اللبناني، «الممسوك» عن المآلات التناحرية، يتعرض كل فترة لنوبات يمكن جدياً تخفيف وطأتها إذا ما أعدنا لفكرة «المجاملات» أهميتها، ودورها، في بلد صغير، بهذا الكمّ من التعدّد الطوائفي، لأن البديل الحاصل، عن «ثقافة المجاملات»، هو تنقل هستيري بين احتقانات، واحتقانات متفجرة، ومجاملات جديدة أكثر اضطراباً، ومناخات متنوعة من «مرض اضطراب العاطفة ثنائي القطب».

البلد أحوج ما يكون إلى ترشيد ثقافة المجاملة، لا وأدها، بل حتى التناول «العلمي» للمسائل والأبعاد، التاريخية والأيديولوجية ولمقاربة تشكل الكيانات ونوع الأنظمة في الإقليم، هذا التناول يحتاج هو الآخر، إلى حد أدنى، من الرويّة. الرويّة تُرشد ثقافة المجاملة، تمنعها من الابتذال والشطط، لكنها تعطيها أيضاً قدراً من التماسك والجدّية، بدلاً من التنقل بين مجاملة «امتداحية» ثم شيطنة تستجر شيطنة.

شيء من المجاملة، بعرضكم، للنجاة بهذا الوطن!