الجزائر… منذ بضعة عقود، تفتقر إلى الواجهة السياسية والقومية بصورة غاية في العجب والاستغراب! الجزائر… مصدر كبير من مصادر الإلهام السياسي والقومي لدى جموعنا الشابة، يوم كان ذلك البلد الجبار، بلد المليون شهيد، تمكنوا بقدرة قادر من صناعة الإستقلال الجزائري وفصل ذلك الوطن العربي الأصيل عن مكيدة دمجه بفرنسا، وما أدراك ما كانت فرنسا تمثل في تلك الأيام العصيبة من روح استعمارية عانى منها ومن عنفها وشدّة مظالمها كثير من المناطق والبلدان إلى حدود هبت شعوبها في وجه الاستعمار الوقح الذي طاولت وقاحته السافرة، اقتحاما للوجود الوطني المستقل والطامح إلى صنع تاريخه الحديث، من خلال شعب هبّ بكامل فئاته وجهاته وأبطاله الذين تقاسمتهم المصائر والمقادير، ما بين ملايين الشهداء وملايين آخرين من الذي طاولهم الكيد والبطش والمعاناة، إلى أن جاء تاريخ القادة العقلاء في فرنسا وفي طليعتهم الجنرال ديغول الذي أطلق الجزائر من عقالاتها وأعادها، ولو بالتدريج إلى دنيا العزة والكرامة والاستقلال.
الجزائر بالنسبة لنا نحن الشباب الوطنيون العرب، الذين أبهرهم النضال الجزائري إلى حد باتت الجزائر فيه لؤلؤة وطنية خالصة البريق وفريدة المعاني والمغازي أمام طموحات المنطقة العربية بأسرها، وقد ربطت على صدورها أهوال الاستعمار والمستعمرين، وكم نذكر في ذكريات شبابنا تلك المظاهرات الحاشدة التي كنا نملأ بها شوارع بيروت، طافحة بكل صدق وإخلاص، وهي تملأ الأجواء العامة بهتافات تدعو لسقوط الاستعمار الفرنسي، وكان في ذلك مزيج من معاناة طاولت لبنان وسوريا بقدر ما طاولت سواها من جيوب الاستعمار التي كانت قائمة في بلدان المغرب العربي وفي الطليعة: الجزائر.
بلد المليون شهيد، انموذج البطولات التي طغت على أحداث تلك الأيام، بلد أحمد بن بلا وهواري بومدين وأمثالهم من الرموز النضالية البطلة هكذا كانت الجزائر بالنسبة إلى العرب عموما، ولكل المعانين من صنوف الاستعمار البغيض.
ماذا يحل بالجزائر في هذه الايام هي بالطبع ليست البلد العربي الوحيد القابع حاليا في الخفايا والحنايا بل يوازيها ويتفوق عليها كثير غيرها من البلدان العربية الغارقة حتى الثمالة في أحداثها واشكالاتها وثوراتها الداخلية التي تقلب الموازين في كل يوم ألف مرة، وتدفع إلى الوجود العنيف والشرس أوضاع بلادها دفعا غريبا وعجيبا نحو التراجع والانكفاء، نقول ذلك وفي الذهن الحاضر قبل الغائب، أوضاع السودان المتفلتة والمزدادة قتلا وعنفا وبطشا، ونعود فورا إلى الجزائر، تلك اللؤلؤة الوطنية والقومية التي لطالما أضاءت أمامها أسرار الطريق النضالي القديم والمسيرة الدائبة والصافية، ماذا يحل بالجزائر اليوم؟ أوليس غريباً عجيباً أن وضعية القيادة الجزائرية التي باتت تحدد رئاستها ويطلق عنانها رئيسها المناضل دون شك عبد العزيز بوتفليقة، يتبوأ عهدا إثر عهد ورئاسة أثر رئاسة، والذي تشاء مشيئة القدر وضعه في إطار مسيرات هائجة مائجة. ما هي هذه المسيرات؟ من يقودها؟ من يتخفى في بطاناتها، ما هي المصالح التي تدفع بها وبالجزائر الى الخلف تارة وإلى المهاوي تارات؟ هل صحيح أن قيادة الأمر الواقع القائمة التي تعمد إلى سياسة التمديدات الرئاسية، كل تلك المراحل التي وصلت بها في هذه الأيام إلى حدود الخمس دورات رئاسية؟ وكأنما عجزت الجزائر وتعجز منذ كل تلك السنوات القاسية التي مرت بها عن انتاج قيادات وزعامات جديدة وكأنما هي عاجزة عن تحقيق المصلحة الجزائرية العليا على مدى هذه الأعوام المديدة، ولنا في مطلق الأحوال تحية خالصة للرئيس الذي لا تنتهي ولاياته وتحية خالصة خصوصا لتاريخه النضالي المجيد، ولكن أين المنطق وأين سلامته العامة في ما يحل حاليا في البلدان الشقيقة؟ وهي كل هذه المستجدات على الصعيد الشعبي وعلى صعيد القيادات الوطنية المتوهجة والمتأهبة لحمل رايات جديدة، وإطلاق كل هذه الصيحات المنطلقة في وسائل التواصل الاجتماعي، ممثلة عناصر كبرى من الشعب الجزائري، هل يتمثل في كل ذلك وضع منطقي سليم كفيل بانقاذ الجزائريين من كل الأحوال الشاذة، والغريبة عن منهجية التفكير الوطني والقومي والتقدم السليم.
الجزائر… أيتها اللؤلؤة الوطنية والقومية التي لطالما تأججت؟ نريدها أن تكون دائما وأبدا دائمة الإضاءة والتأجج. تريد الجزائر أن تعود إلى منطق المسيرة السلمية والاندفاعات الحرة المجردة.
وجزائر اليوم: إلى أين تتجه بها مسيرتها المستقبلية ذات التوقعات المتدهورة.