البلاد تقف أمام مفترق بين الإنقاذ والإنهيار
دعوة الى مظلة توافق تظلل الجميع ومساع للتقارب بين اللبنانيين وأركان الكتل
كان ذلك في منتصف الأسبوع الفائت. وصل الرئيس نبيه بري الى القصر الجمهوري في بعبدا، ومعه الهيئة الجديدة لمكتب المجلس النيابي الجديد، وتوجه فوراً الى مكتب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولدى وصوله وجد الرئيس عون بانتظاره عند الباب. توقف الرئيس بري هنيهة ورفع يده اليمنى الى فوق، وبادره بالتحية الرسمية. رحب الجنرال بالزائر القادم من المجلس النيابي. فكان سلام حار، وكلام حافل بالمودة. ودخل الرئيس الثاني في الجمهورية، وجلس جانب الرئيس الأول للبلاد.
كانت الزيارة المتوقعة بداية لا نهاية. بداية عصر جديد من المودة، ونهاية حقبة غامضة من التباينات في المواقف حيناً، والصراعات في الآراء أحياناً. وفي لحظات سرت أجواء من التفاهم وغابت اشاعات عن وجود سوء فهم امعنت الإجتهادات عند بعض الأفرقاء في تغذيتها.
وهذا ما جعل المفكر السياسي باسم الشاب ان يقول ان الجفاء تصنعه الإشاعات أحياناً، وقبل ان يغادر النائب السابق باسم الشاب مقعده النيابي أخيراً، دأب على القول ان التباينات في المواقف والآراء من صنع اجتهادات لا أساس لها من الصحة.
كان وصول رئيس البرلمان الى بعبدا بروتوكولياً لكنه، أصبح بعد تلك اللحظة تفاهماً سياسياً على مستقبل للبلاد غامض، لكن صعود الرئيس بري الى القصر الجمهوري، وحواره وانفتاحه على رجاحة فكر رئيس الجمهورية، كان وليد التفاهم الثلاثي على إدارة البلاد، بحكمة وحنكة وروية، مع نيات واضحة في انقاذ البلاد مما يحيق بها احياناً من مخاطر وأزمات. وهذا ما تبين لاحقاً انه نقطة جمع لا سبب تفرقة.
كان صعود الرئيس نبيه بري الى بعبدا، من النصوص البروتولوكية، لكن وجوده في القصر الرئاسي، وحواره الإنفتاحي مع رئيس البلاد، خلق مرونة على مسيرة التفاهم والتعاون، وما حدث في اليوم التالي، عند بدء الإستشارات النيابية الملزمة وفقاً للدستور، واجماع ١١١ نائباً على تزكية ترشيح الرئيس سعد الحريري لتأليف الحكومة الجديدة هو برهان ساطع على ان في البلاد قادة ورجالاً، مؤهلون لتجاوز معظم العقبات التي تعترض مسيرة الإنقاذ من الأزمات.
طبعاً، لعبها الرئيس بري بذكاء وخبرة، عندما بادر قبيل المعركة على الرئاسة الثانية الى تزكية ترشيح المحامي ايلي الفرزلي لمنصب نائب رئيس المجلس النيابي، وهو المنصب الذي شغله في عهد المجلس النيابي السابق، قبل نحو تسع سنوات، والتنويه بالتفاهم الذي ساد العلاقات الحميمة بين الإثنين، عقب اتفاق الطائف لكنه، أي الرئيس بري عرف في أثناء تلك الفترة، كيف يتعاون ويتفاهم مع نائبه المميز بثقافته السياسية، وهو الذي ينتمي الى عائلة اعطت الحياة النيابية رجالاً كباراً في الفكر السياسي، وفي مقدمتهم عمه النائب الراحل أديب الفرزلي. كما انه، أي الرئيس بري، كان حريصاً على مشاركة الرئيس ايلي الفرزلي في معظم القرارات التي واجهت المجلس النيابي في اثناء الأزمات الحادة بين اكثرية مسيحية قاطعت الإنتخابات النيابية في بداية الخمسينات، وساهم بري والفرزلي في حوارات دائمة مع المفكرين المسيحيين في جامعة الروح القدس في الكسليك انعشت الأجواء السياسية القائمة.
وهذا ما جعل النائب السابق نعمة الله أبي نصر يقول مراراً ان وجود الرئيس بري والرئيس الحريري كان حاجات لبنانية وسياسية لردم الهوة بين حقبة إتفاق الطائف ومرحلة الانتقال لاحقاً الى التفاهم اللبناني على تحقيق مطالب كان يتمسك بها الفريق المسيحي أو معظمهم.
كان الرئيس الراحل سليمان فرنجيه في حقبة السبعينات وما بعدها يقول ان وجود نبيه بري والى جانبه ايلي الفرزلي فرصة تاريخية لجمع اللبنانيين، لا لتفرقتهم، وانا كنت أدرك في تلك الفترة، ان وجودهما في الحياة السياسية فرصة مهدت لاحقاً لولادة تفاهمات صعبة في التاريخ السياسي.
طبعاً، كان موقف وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق سلبياً من انتخاب ايلي الفرزلي مجدداً لنيابة رئاسة المجلس، لانه كان يعرف في أثناء ظهور الرئيس الشهيد رفيق الحريري في السلطة الدور الذي كان يتمتع به النائب العائد الى منصب نائب رئيس مجلس النواب. لكن الحقيقة ان الاستاذ ايلي الفرزلي كان يعارض الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بعض مواقفه، لكنه كان في الوقت نفسه يرمم، أو يسهر على ترميم العلاقات السلبيّة أحياناً، بينه وبين النظام السوري.
وفي مرحلة دقيقة ظهر الفرزلي في مقابلة إذاعية مع الزميلة وردة روز زامل على أثير اذاعة صوت لبنان، وبعد انتهاء الحلقة اتصل به العميد غازي كنعان المعروف بصداقته لنائب رئيس المجلس، وعاتبه على تشهيره بمواقف أركان في النظام السوري تجاه وجوه سياسية عريقة في لبنان.
وقال الوزير السوري السابق لنائب رئيس المجلس النيابي، ان سوريا تتفهم كلامه، لكنها لا تتفاهم معه على قوله من إذاعة لبنانية مسموعة. ورد الفرزلي بان الحقيقة يجب أن تقال، وربما يُسبب غيابها هذا الجفاء الممض بين السلطة السورية والهيئات السياسية في لبنان.
وفي احدى المراحل، كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري عائداً من احدى زياراته للعاصمة السورية، وعرج في طريق العودة على عنجر للاجماع بالعميد غازي كنعان الذي كان يكن جفاء للاستاذ نهاد المشنوق المستشار السياسي للرئيس الحريري، وعندما عرف أن وزير الداخلية الحالي موجود في السيارة، حرص العميد غازي كنعان على الخروج مع رئيس الوزراء اللبناني، لمعاتبة المشنوق على مواقف تصدر عنه أو باسمه لكن الرئىس الشهيد وقف بقوة إلى جانب مستشاره الذي لا يتصرّف بأي موقف سياسي من عنده.
إلا اأن المشنوق، قدم استقالته إلى الرئىس الحريري لأنه لا يريد أن يكون سبباً لسوء علاقاته مع النظام السوري.
إلا أن الرئىس سعد الحريري الذي كان يعرف هذه الوقائع، أاصر بعد رحيل والده أن يتعاون مع الوزير الحالي، وترشيحه نائباً عن مدينة بيروت، ومن ثم تسميته كوزير للداخلية والبلديات باسم تيار المستقبل.
والوزير المشنوق كان صديقاً للرئيس الراحل تقي الدين الصلح، وعمل في الصحافة اللبنانية بين العاصمتين الفرنسية واللبنانية، ويتميز طوال حياته بلياقه وكان يختار عبارة مقتضبة لتنزل عنواناً كبيراً في الصحافة على عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري.
وما حدث في الأسبوع الفائت، لا يشكل تبايناً في وجهات النظر بين رئيس مجلس الوزراء المكلّف تشكيل الحكومة الجديدة، لكنه نوع من التنوّع السياسي، في الحكومة الأولى للعهد الحالي، كما كان يقول الرئىس العماد ميشال عون.
ويرى النائب الجديد ووزير التربية الوطنية السابق الياس بو صعب أن على اللبنانيين أن يتعودوا على رؤية مواقف متباينة في الحكومة الواحدة، لأن السلطة في لبنان هي مجموعة أحزاب وتيارات، وان البلاد بحاجة إلى مظلة سياسية فوق الجميع، تستوعب معظم الآراء ولا تبرر لأحد أن يتفرد بموقف واحد ويفرضه على الجميع، وإلا فإن لبنان يفقد مميزاته ودوره كوطن للكل، كما ان على رأسه قائداً للكل وجامعاً للكل، وهذا ما أحدثه ويحدثه العماد ميشال عون، في السياسة اللبنانية، وما ينبغي لنا جميعاً أن نتعود عليه.
وفي رأي الرئىس سعد الحريري ان ليس في لبنان حزب واحد في السلطة، ونحن نسعى الآن وابتداء من هذا النهار إلى جمع اللبنانيين في حكومة اتحاد وطني – اذا أمكننا ذلك – ليتوحد الجميع لا في رأي واحد، بل في جهد مشترك لخدمة لبنان والتقلب على مصاعبه السياسية والإقتصادية. بعد التوافق على انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية قبل سنة ونيف، يجب على الجميع التوافق على العمل لإنقاذ لبنان، مما يحيط به من أزمات، ولو كان لبنان من رأي واحد، لكان قد مات سياسياً منذ زمان.
ويضيف ان التنوع السياسي في الآراء والمواقف هو الطريق المتاح امام الجميع لبلورة تفاهم وطني شامل، لأن الموقف الواحد هو من الديكتاتورية السياسية المرفوضة من الجميع.
ويعتقد وزير الخارجية جبران باسيل، ان الحرية السياسية في البلاد، مليئة بالعثرات والمفاهيم المختلفة، لكن ذكاء اللبنانييين يحتم عليهم التوافق على حدود توفق بين الاراء المتضاربة، ان الإنتخابات أصبحت وراءنا، وأن تيار المستقبل أمانة أمامة الجميع وفي عهده كل من يريد مصلحة البلاد العليا لا مصلحته الشخصية.
ويقول النائب الجديد طوني سليمان فرنيجه ان وجود كتل ومواقف متضاربة في البلاد، هو في غنى سياسي للجميع وعلينا جميعاً أن نحافظ على هذه الثروة وأن نحفظ لبنان من السلطة الواحدة، والذهنية الواحدة التي تفرق بين الجميع.
ويرى النائب اآلان عون ان لبنان قطع نصف الطريق نحو التفاهم علي هذه المبادئ لأن إنقاذ البلد هو هدف للجميع، لا لفريق واحد.
وهذه هي قبلة أنظار سعاة الخير، في بلد مطلوب منا جميعاً أن نعطيه الخير لا أن تأخذها منه.