نحتاج إلى عرّافين لنفهم ماهية مطالب تنظيمَي «النصرة» و«داعش» الإرهابيَّين لإطلاق العسكريين المخطوفين عندهم. الحكومة اللبنانية شبه غائبة:
كلّ حراكها على إيقاع الموفد القطري ذهاباً وإياباً. توحي حيناً أنّها ذاهبة إلى التفاوض المباشر. وتومئ أحياناً بالمقايضة بلا معرفة المقابل. وجميع الذين حصلنا عليه كليشيه «لدينا أوراق قوّة»، لكن من دون أن نعرف ما هي ومتى ستُستخدم؟
المشهد يزداد سوءاً مع ما تمّ تداوله إعلامياً عن مطالب الخاطفين والتي تنحصر بإطلاق قتلة لبنانيين وخاطفي السيّاح الاستونيين، وفي الحالين حصلت جرائم هؤلاء على الأراضي اللبنانية.
ووجود هؤلاء ـ موضوع المقايضة ـ في السجون يعود إلى أعوام تسبق دخول «حزب الله» على خط الثورة السورية. الخاطفون يريدون قتَلة ومجرمين ارتكبوا ما ارتكبوه من فظائع ضدّ لبنان البلد وأهله على امتداد أعوام، كان كثرةٌ منّا يعتقدون أنّهم يقيمون في دولة ووطن محكومَين بالقوانين.
وما يزيد الرؤية ضبابية تجاوبُ أهالي المخطوفين مع مطالب الخاطفين وانقيادهم للتعليمات التي ترِدُهم عبر الهواتف، أو عبر تسجيلات مرئية مبثوثة هنا وهناك تطلب منهم اتّخاذ خطوات محدّدة وفي أماكن معيّنة، وحتى رفع شعارات لا تعدو كونها شتائم مطلوبة لشرذمة ما تبقّى من مباني الدولة الحقوقية والسياسية.
الحق أنّ أحداً لا يمكنه الالتياع بحجم مأساة وشعور ذوي المخطوفين. كما أنّ الكلام الذي من طبيعة شعرية وإنسانية لا يحلّ مشكلة المخطوفين، ويبقى المشهد على حاله: قطع الطرقِ الرئيسة والحيوية وتعطيل عمل الناس وانتقال التلامذة والطلبة، توتير الأجواء الأمنية، صراخ وشتائم وانتقادات للحكومة تفوق ما يطلبه الخاطفون أحياناً، والجملة الوحيدة: مع الاعتذار من المواطنين.
في المقابل، وكلّما تجاوبَ أهالي المخطوفين مع الإملاءات، تزداد حقارة الخاطفين ابتزازاً وتصعيداً: حيناً بالتلميح بمقايضة جنودنا مع إرهابيين في السجون، وأحياناً بانتهاك السيادة اللبنانية واستهداف الجيش عند الحدود، أو عبر «خلايا نائمة» في المناطق ومخيّمات النازحين السوريين.
الخاطفون يعتقدون أنّ قسوتهم المبثوثة عبر شاشات التلفزة، والتي لا يمكن تخيّل حدودها، ستَسحق ما تبقّى من أبنية الدولة اللبنانية، وستُثبت قوّة التنظيمين من أجل «التمكين». وهما (داعش والنصرة) لا يستثقلان القتلَ والذبح في سبيل إثبات الوجود.
فجأةً تحوّلا من الاشتباك مع نظام آل الأسد، إلى استهداف لبنان وإثارة النعرات فيه، وهو أصلاً مثقل بندوب وجراح الاحتقان المذهبي منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإزاحة فئةٍ وجهَها عن حقيقة الزلزال الذي عصفَ بالبلد.
في الوقائع أنّ من يستسهل القتل والذبح وارتفاع وتيرتيهما إنّما يفعل ذلك انطلاقاً من رغبةٍ حاسمة لتحقيق مطالبه بأسرع وقت، لكن ما يحصل عندنا هو العكس من ذلك تماماً. فقد صارت الحدود الشرقية للبلد جبهة استنزاف أمنيّ وعسكري وسياسي واقتصادي، كما لو أنّ القتَلة يرون الموتى عدداً لا بشراً، وكلّ المهم لديهم هو تأسيس بؤرة جديدة من بؤر النزاع في المنطقة، في لبنان وتدميره.
والحال هذه، لا مبالغة في القول إنّ ممارسات «داعش» و «النصرة» مماثلة لموقف النظام السوري الذي يحسب أنّ الأحزان والآلام لا تصنع أو تصوغ واقعاً سياسياً، ويذهب إلى افتراض أنّ الدمار والقتل، أكان كثيراً أم قليلاً، لا يسعه أن يحسمَ شيئاً لصالح الثورة السورية على أيّ وجه من الوجوه.
حتماً ثمّة نهاية سنبلغها جميعاً. وهي نهاية تستند إلى أوزان القوى سياسياً وعسكرياً. هكذا يُفكّر ويمارس كلّ من نظام الأسد و«داعش» و«النصرة».
الوزن، في نظر الأفرقاء الثلاثة، يُقاس بمقدرة قوّة ما على رسم حدود قوّة أخرى موازية أو مناقضة لها، ومدى قدرتِها على تثبيت وجودها بأوضع الوسائل وأكثرها عنفاً وفتكاً لِبَثّ الرعب في النفوس.
ذات يوم فعلَ نظام الأسد في لبنان ما يفعله حاليّاً في سوريا، لكن ظلّ في لبنان من يناصره بشعارات كانت تتبدّل بتبدّلِ التحالفات الإقليمية. والآن «النصرة» و«داعش» يفتكان بنا لأنّنا لم نقوَ على منع «حزب الله» من ركوب مغامرة «محور الممانعة»، وأيضاً ظهَر من يُضفي على أحد التنظيمين الصفة «الثورية»، وكأنّ ما يحصل في جرود عرسال وعلى الأرض اللبنانية مشابه لأدغال كوبا.
في لبنان فريقان: واحد مقتنع بأنّ تنظيماً يقتل ويذبح هو «حركة ثورية»، وآخر سيقاتل إلى جانب نظام البعث حتى لا يبقى في البلد لا زرعٌ ولا ضَرع. وفي الحالين، فإنّ الفريقين لا يقيمان وزناً للّبناني أياً كانت مَنابِتُه أو نوازعه. وستبقى بلادنا أرض القتل المستمر.