ذات مرّة كان للشعار الذي أطلقه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ «الجرأة على الكفاح، الجرأة على النصر» وقعه في أرجاء المعمورة، يستعاد بلزوم أو من غير لزوم. قيمة هذه المقولة أنّها كانت توحي بأنّ العائق أمام تحقيق النصر هو خوف من ينشده من الانتصار نفسه. كان هذا الشعار تجسيد فطن للنزعة الإرادوية الثوريّة.
كيف يمكن استحضار هذا الشعار سورياً ولبنانياً اليوم؟ هل بالجرأة على الفصل بين الوضعين اللبناني والسوري؟ أم بالجرأة على الجمع بين الوضعين، وهل يكون ذلك في وحدة المقاربة، أو في وحدة البرنامج؟
لو بحثنا «الجرأة على النصر» سورياً اليوم، فماذا تكون؟ بالحدّ الأدنى انهاء شيء اسمه نظام آل الأسد. طبعاً القضية الأساسية تبقى انقاذ الكيانية الوطنية السورية، واعادة تضمينها أسساً واقعية، قابلة للتجدّد والحياة، ولعيش الاختلاف برحابة، لكن أيضاً الأوزان المختلفة التي يتشكّل منها المجتمع السوري. وهذا كلّه يتحوّل الى موضوع انشاء بليد ان لم يكن شرطه الأوّل جعل نظام آل الأسد من الماضي، وليست هذه هي الحال اليوم، وبعض التذاكي بأنّ «النظام بحكم المنتهي» يخدم عملياً تضليل المقاربة، لأنّه يترتب على مثل هذا القول تنحية ضرورة اسقاط النظام من رأس جدول الأعمال. في الوقت نفسه، فإن كل هذا الكفاح والنظام لم يسقط، والثورة تشوّهت في بنيتها نفسها الى أقصى حد، والحدود بينها وبين الثورة المضادة صارت نسبية للغاية، فكل هذا يطرح راهنية مقولة ماو، أي راهنية تفسير الاخفاق في تحقيق النصر على النظام بأنّها خوف من النصر نفسه. لماذا يخاف السوريّون، الثائرون، من تحقيق الانتصار على نظام بشار الأسد، رغم ان النظام نفسه ما عاد «يخيفهم»، وليس فيهم من يخشى أن يعود هذا النظام ليقف على قدميه، مهما اسودت وتبعثرت صفحة الثورة؟! أنْ يبقى تفسير عدم سقوط النظام بلعبة الأمم فهذا صحيح وخاطئ في آن. نعم، السياسة الغربية حيال سوريا كانت اما خبيثة واما ساذجة او «عبيطة»، والموقف العربي، الحكومي والشعبي، لم يكن بالمستوى المطلوب حيال جهاد الشعب السوري ضد هذا النظام، لكن ثورة تقدّم كلّ هذه التضحيات ليس مفروضاً بها أن تعتمد الا على ذاتها، ولا يمكنها ان لم يسقط النظام بعد الا ان تنبش في ذاتها عن أسباب الخوف من تحقيق الانتصار.
هذا بالنسبة الى سوريا، أما بالنسبة الى لبنان، فإنّ الجرأة الأولى المطلوبة هي الجرأة على الفصل مع سوريا من ناحية، والجرأة على مقاربة الأمور بالربط بين البلدين من ناحية ثانية. طبعاً، ليس بالحجج ومحاولات الاقناع سيخرج «حزب الله» من سوريا، وكل ما يسرّب عن وجود توجّه داخل الحزب لما يشبه الانسحاب الضمني من سوريا لا يمكن الاعتداد به، وما زال مواطنون لبنانيون يعودون في التوابيت من الحرب السورية. وفي المقلب الآخر، المكابرة على التشوّهات البنيوية التي حوّلت الثورة السوريّة الى ما هي عليه الآن، واسقاط بداياتها على حاضرها، لا يجدي نفعاً في لبنان، بل هو يضرّ بالوعي اللبناني للقضيتين الكيانيتين، اللبنانية والسورية، وللاختلاف القائم بينهما.
في سوريا، كيان متشظٍّ ونظام استبدادي محتضر، انما حوّل احتضاره لنظام من الاحتضار الدموي المزمن. لا يمكن انقاذ الكيان الا بإسقاط النظام، لكن اسقاط النظام وحده لا يكفل الباقي. أما في لبنان، فنحن حيال كيان متخلّع، لكنه نجا بنفسه، عن تمدّد الحرب الاهلية المشرقية اليه، وان اندثرت حدوده الشرقية التي تفصله عنها، واستفحلت آليات التعطيل والتفريغ في مؤسسات دولته. في هذا اللبنان، اول «الجرأة على الكفاح، الجرأة على النصر»، تكون بالجرأة على التفاوض المسؤول لأجل انقاذ العسكريين المخطوفين من مسلسل الاعدامات الاجرامية. الشعار يصبح اذاك: «الجرأة على التفاوض، الجرأة على الفصل». الفصل بين لبنان وبين الحرب السورية. الجمع بين قضيتي انقاذ كيان اسمه لبنان وكيان اسمه سوريا. هل يمكن انتاج اجماع على هذين المنطلقين أولاً؟ هذا بصرف النظر عن كيفية تفسيرهما عند كل فريق؟ هناك كيانان يتهدّدهما الخطر، وليس أبداً لأن كيانات بديلة أكثر جدوى مرشّحة للحلول مكانهما. انقاذ الكيانين ممكن، وضروري، ومترابط في البلدين، لكن له سياق مختلف كثيراً في كل منهما. حركة الانقاذ الكياني في سوريا لا يمكن ان تكون هي هي حركة الانقاذ الكياني في لبنان، لكنها لا يمكن ان تتطور الا بالتبادل المستمر للدروس، وكذلك الأمر بالنسبة الى الجهة المقابلة.