عندما يتسرَّب من أوساط الرئيس سعد الحريري أنه سيستقيل أو يصرِّف الأعمال، فعلى الأرجح أنّه يرفع السقف في وجه الجميع ليقول: «أنا أيضاً أملك الأوراق». ولكن، لن يفعلها الحريري. هو لا يتحمّل إسقاط الحكومة والخروجَ من السراي. فنادي المرشحين لترؤس أي حكومة مقبلة يَعجُّ بالمنتظرين، ولكن، لا أحد سوى الرئيس ميشال عون في نادي رؤساء الجمهورية… حتى نضوج البدائل.
لن يخرج الحريري من السراي إلّا إذا أراد ذلك «حزب الله». هو الطرف الداخلي الوحيد القادر على دفع الأمور نحو هذا الاتجاه. وإذا سقطت الحكومة، يكون «الحزب» راغباً في إنجاز صيغة أخرى لتحقيق أهدافه المرسومة.
لكن ذلك مستبعد حالياً، لأنّ «الحزب» أكثر المرتاحين في الصيغة الحالية. ويقول المطلعون: مكتوبٌ على تركيبة عون- الحريري، ومعهما الرئيس نبيه بري، أن تستمرّ إلى نهاية العهد.
لذلك، يجدر التمييز: عون ليس هو نفسه العهد. إنه «رمز العهد» أو «صاحب العهد»، لكن العهد يُترجم شراكة معقّدة بين مجموعة من القوى النافذة. ويعيش عون هاجس الإنجازات التي وعد بها قبل وصوله إلى الحكم. فالوقت يضيق عليه، لكنه لا يملك العهد كله ليقرّر وينفّذ. فهل النصف الثاني من الولاية سيحقّق له ما لم يتحقّق في نصفها الأول؟
يشاء القدر أن ينتصف عهد عون فيما لبنان- الملقّب بـ»الكبير»- يَحتفل بانتهاء قرن على ولادته (1920) وانطلاق قرن آخر. وبذلك، يصحّ القول إنه «العهد ذو القرنين». والتحدّي الذي يواجهه لبنان في هذا العهد يوازي ذاك الذي واجهه قبل 100 عام. ففي الحالين، إنه التأسيس.
عام 1920، المغامرة كانت التأسيس الأول: تأسيس الكيان. وكان الرهان هل يعيش هذا المولود الذي جاء نتيجة:
تزاوجٍ بين جبل لبنان والأقضية.
وتزاوجٍ بين المسيحيين والمسلمين.
وتزاوجٍ بين المسحورين بالشرق العربي الإسلامي والمبهورين بالغرب المسيحي.
وتزاوجٍ بين الذين بقي قلبُهم عالقاً في المتصرفية والذين ذهب قلبُهم مع السلطنة العثمانية؟
وبناءً على أي نظام سيجري هذا التأسيس؟ وكيف ستتمّ إدارته؟
سيكون للتاريخ أن يقول: هل نجح الرهان على تأسيس الكيان؟ وإلى أي حدّ؟ وكيف؟ ولماذا؟ وربما تصبح الإجابات أشدّ إحراجاً، لأنّ رمز «لبنان الكبير» البطريرك الياس الحويك، يسلك الخطوات الأولى على درب القداسة. فكيف يُمكن المسُّ بـ»قدسية الكيان» بعدما جرت تغطيتها بـ»قدسية الرمز»؟
ولكن، أياً يكن الجواب، فإنّ رهان العهد الحالي، بعد 100 عام، سيكون التأسيس الثاني: تأسيس الدولة.
فهل تعيش الدولة بالطريقة التي عاش فيها الكيان، أو بمقدار ما عاش ؟
وكيف ستنشأ دولةٌ أركانُها ممثلون شرعيون وغير شرعيين لقوى ومحاور خارجية، عربية وإقليمية ودولية، يتحالفون عنها ويتقاتلون عنها؟
وكيف ستنشأ دولةٌ بين الذين يتكاذبون حول كل الملفات المصيرية من النازحين السوريين والفلسطينيين إلى «صفقة القرن»؟
وكيف ستكون حياةٌ لدولةٍ يتواطأ فيها النافذون ويتقاسمونها كمزرعة ويتناوبون على استنزاف مواردها حتى الانهيار؟
وكيف ستكون دولةٌ فيها أخطبوط الطوائف ومعظم زعمائها، الدينيين والسياسيين، يخنقون أي محاولة للتحديث أو التنوير؟
من حظّ الرئيس عون، أو من سوء حظه، أنّ كرة النار ملقاة عنده، لأنّ المهمّة صعبة جداً. والبعض يقول مستحيلة.
عادة، تتوزّع السنوات الست من العهود الرئاسية كالآتي:
– السنتان الأوليان للإمساك بزمام الأمور.
– السنتان التاليتان لتنفيذ أكبر قدرٍ من إنجازات العهد.
– السنتان الأخيرتان تُخصَّصان لاستعدادات الوداع والتحضير للخَلف (أو للتمديد!)
الرئيس عون هو اليوم في السنتين المخصصتين لإنجاز مشروعه. وهو الذي توقّع أن تكون الحكومة الحالية هي حكومة عهده الأولى، لأنها جاءت بعد أول انتخابات نيابية في العهد. ولكن، لا دلائل إلى إنجازات متوقعة تلبّي الشعار الطموح الذي طرحه عون عند مجيئه إلى الحكم، أي الإصلاح والتغيير وبناء الدولة الحديثة.
كل الأزمات التي تعصف اليوم بالعهد تبدو فرعية وتفصيلية عن الأزمة الكبرى، أزمة الخلل في النظام منذ التأسيس. ومعروفة عناوين هذه الأزمات:
من أزمة الشراكة الوطنية إلى أزمات الصراع الإقليمي على أرض لبنان إلى مسائل النازحين واستحقاقات المواجهة مع التحولات الشرق أوسطية الكبرى إلى التحدّيات الاقتصادية والمالية والنقدية وسواها، وهي كلها تمنع بناء الدولة الحديثة ويتخبّط فيها العهد. وأما الأزمة الكبرى فهي مستعصية.
ويتعثر الإصلاح، الذي يُفترض أنّه الورشة الوحيدة الجديرة بالتعب. وبدلاً منه، يُدار البلد بالتسوية- الصفقة التي تمت عام 2016 وأرست توازناً شكلياً بين ثلاث قوى طائفية- سياسية («حزب الله»- عون- الحريري). وفيها يقدِّم كل طرفٍ تنازلات معينة مقابل استحصاله على مقادير من السلطة لسنوات عديدة.
في النصف الثاني من العهد، ستهيمن هذه التسوية كما في نصفه الأول. وفيها لا مكانَ ولا وقتَ للتوافق على دولة حديثة، بل مساومات لإدارة البلد وتقاسم الحصص، انتظاراً للتحوُّلات الكبرى. ولا مجال لأن يقوم الحريري بنقضها لئلا يعيد نفسه إلى ما قبلها، أي إلى خارج السلطة، أو خارج البلد.
والخلل في بناء الدولة هو النتيجة البديهية للخلل في النظام السياسي والطائفي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الذي رعى تأسيس الكيان وتحكَّم بمصيره منذ 100 عام، هو وأخطبوط المنافع الذي أرساه. فلا يمكن بناء دولة حقيقية على رمال متحرّكة.
وهكذا، فالرئيس عون يسابق الوقت مع بدء العدّ التنازلي للإنقاذ. ويواجه تحدّياً تاريخياً بمقاومة قانون الجاذبية اللبناني الذي يكرِّس الخلل المستدام، المثلث:
– الخلل في تأسيس الكيان.
– الخلل في النظام.
– الخلل في تأسيس الدولة.
«العهد ذو القرنين» إلى أين؟ هل ينجح الرئيس عون في تحدّي قانون الجاذبية الكارثي أم يُمضي النصف الثاني من العهد كما نصفه الأول؟ ربما يحتاج هذا العهد و»جنراله» ورموزه إلى فتوحات عاجلة كتلك التي حقّقها الاسكندر المقدوني، وإلاّ فإنّ الهيكل سيسقط على الجميع!