نجت اسرائيل طويلاً من أي حساب. نكّلت بالفلسطينيين شرّ تنكيل. مضى هؤلاء الى الكفاح المسلح، كأكثر العرب. لم يحرروا شبراً بالقتال. هرولوا الى المفاوضات. خاب مسعاهم لما نشدوا السلام. يتوسلون أقل الممكن من المحكمة الجنائية الدولية. لا دولة من دون عدالة. وفي أي حال، ما عاد مقبولاً أن تبقى الجريمة في حقهم بلا عقاب.
خرج الفلسطينيون من أرضهم مذلولين. علّقوا في أعناقهم مفاتيح بيوتهم. تكاد هذه تصير تحفاً. تغنى الإسرائيليون بالسيطرة على أرض الميعاد. حاربوا واستوطنوا. ضربوا عرض الحائط بكل القرارات الدولية. لم تصر هذه القرارات بلا معنى لأن العرب استهتروا بها. لا تكتسب مغزى إضافياً لأنهم يستصرخون المجتمع الدولي لتطبيق القرارين ١٨١ و١٩٤ مروراً بالقرارين ٢٤٢ و٣٣٨ وصولاً الى القرارين ١٨٥٠ و١٨٦٠. ليس وحده التاريخ ما سيحكم على مسار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية. هناك من يقول إن السلاح كان الرد الوحيد على فظاظة الزعماء الإسرائيليين حتى قبل أن تتساءل غولدا مئير عما إذا كان ثمة شعب فلسطيني. هناك من يؤمن في المجتمع الدولي بأن الحال وصلت الى هنا لأن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رفع على منبر الأمم المتحدة في يوم مشهود عام ١٩٧٤ غصن زيتون في يد وبندقية في يد.
تأخر كثيراً السعي الحقيقي الى قيام دولة فلسطينية. لم يذق الشعب الفلسطيني إلا الحصرم والحسرة من الوساطة الأميركية الجدية التي بدأت عقب التوصل الى اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣. لم تتمكن الولايات المتحدة من الاضطلاع بدور الوسيط النزيه لأسباب مفهومة. مارست حق النقض “الفيتو” عشرات المرات لمنع مجلس الأمن من إدانة اسرائيل. غير أنها تخلت عن معارضتها المبدئية المحكمة الجنائية الدولية حين أعدت مشروع قرار لإدانة جرائم النظام السوري. آنذاك صرحت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة سامانتا باور بأن “أحفادنا سيسألوننا بعد سنوات من الآن كيف يمكن أن نخفق في تحقيق العدالة للناس الذين يعيشون في جهنم على الأرض”. الصحافة الأميركية نفسها توقفت عند هذا الإندفاع من واشنطن لتكون للعدالة يد طولى… ولكن فقط لأن إحالة كهذه تخدم سياستها الخارجية. أما سعي الفلسطينيين الى العدالة، فيواجه بالويل والثبور وعظائم الأمور.
علقت اسرائيل في مأزق وجودي. ليس لأن الفلسطينيين أو العرب أو بعضهم يريدون رميها في البحر. فهذه واحدة من تلاحين “الظاهرة الصوتية”. بل بسبب الحفر كل يوم لقبر حل الدولتين. كثيرون لا يقتنعون بأن “الدولة اليهودية” يمكن أن تكون ديموقراطية منصفة لملايين الفلسطينيين. جريمتهم الآن أنهم يحاولون طلب العدالة من المحكمة الجنائية الدولية.