«ولم تظهر عليه في السجن إمارات التطرف». تكاد هذه العبارة تلازم معظم سير الإرهابيين الأوروبيين منفذي الاعتداءات المتنقلة في مدن وعواصم القارة العجوز. يملك هؤلاء سجلاً إجرامياً عادياً. سرقات، وجرائم قتل واعتداء على رجال شرطة ومخدرات. الأخيران منهم، أي منفذ اعتداء الشانزيليزيه كريم شرفي ومنفذ اعتداء استوكهولم رحمت عقيلون يبلغ كلاهما من العمر 39 سنة. لا يبدو أن هذا النوع من الإرهابيين «ذئاب منفردة»، ليس فقط لأن صلات محتملة تربطهم بالتنظيم الإرهابي، بل أيضاً لأن هذه العبارة تنطوي على بعد نفسي لا يملكونه. إنهم «ذئاب غير منفردة» تكونت شخصياتهم العنفية من مصادر الإجرام العادي. وهم القتلة المتشكلون من رثاثة العيش في السجون، ومن تبعات العلاقة غير المستقرة مع قوانين الهجرة والعمل والتعلم. ومعظمهم لا يملك خبرة قتال خارج أوروبا، ولا يجيد لغة غير لغاتها، وهم إذ ترددوا إلى بعض المساجد، إنما فعلوا ذلك للمرة الأولى قبيل تنفيذهم جرائمهم بأيام أو أسابيع. هم مسلمون، لكن الإسلام هوية مثلومة وعُصابية وباعثة على غضب، وليس هوية أيديولوجية أو اجتماعية.
يحمل هؤلاء أنصاف هويات. هم أنصاف مسلمين وأنصاف أوروبيين وأنصاف أميين، وأحياناً هم أنصاف مواطنين وأنصاف لاجئين، وبعضهم كان نصف مجرم ونصف فصامي.
سريعاً ما تبنى «داعش» عملية الشانزليزيه، وأطلق على منفذها اسم أبو يوسف البلجيكي. لكن كريم شرفي مواطن فرنسي، فمن أين له أن يكون بلجيكياً؟ والغريب أن الشرطة الفرنسية والصحافة الأوروبية راحت تبحث عن أصل بلجيكي للرجل، أو علاقة بين فعلته وبين مخططين ومساعدين له في بلجيكا. ساعد على ذلك رسالة وُجدت بحوزته تشير إلى علاقة بينه وبين «داعش». وهو إذ كان مدرجاً على لائحة المراقَبين ممن أمضوا سنوات في السجن الفرنسي، لم تمض ساعات على تنفيذه الجريمة إلا كانت سيرته الأولى موزعة على وسائل الإعلام. والسيرة لم تحمل جديداً. فرنسي من أصول مغاربية أمضى سنوات في السجن الفرنسي، وغاضب مما يجري في سورية، ولا يملك سجلاً «جهادياً» خارج الحدود الفرنسية.
إنه «أبو يوسف البلجيكي»، الرجل الذي لا يعرف شيئاً عن اسمه، مثلما لا يعرف الكثير عن إسلامه وعن تنظيمه. وبلجيكا صارت على ما يبدو حاضرة في قاموس التنظيم بصفتها هوية افتراضية، موازية لـ «بلاد الشام» و «بلاد الرافدين» و «أرض الكنانة».
لقد حددت أوروبا هوية إرهابييها. لا شيء قاطعاً في هذه الهويات، ولا شيء مكتملاً. لكن القارة إذ فعلت ذلك، بدت عاجزة عن الإتيان بالخطوة التي من المفترض أن تعقب ذلك. مارين لوبن ترى أن الخطوة التالية يجب أن تكون حرباً على اللاجئين، وأنغيلا مركل ترى أن برامج الدمج الإيجابي للنازحين هي الحل، وبين الخيارين تبدو أوروبا حائرة ومتنازعة ومُتخبطة.
«داعش» كتنظيم وكجسم وكـ «دولة» يبدو بعيداً عن تفكير أوروبا بنفسها، فالتنظيم وفر لأي مجرم فيها فكرة لجريمته تتعدى الجريمة نفسها. «داعش» أعطى الجريمة معنى مختلفاً. التنظيم قال لرحمت عقيلون اذهب وادهس سويديين بالشاحنة، وستكون فعلتك جهاداً. عقيلوف كان سيفعل ذلك أو ما يشبه ذلك، لكن تعريف الفعلة أحدث فارقاً، فبين أن تكون «جهاداً» وأن تكون جريمة عادية فارق يشحن الدافع الفعلي بحقنة تصميم إضافية.
موقع «داعش» في هذه المعادلة شديد الغرابة، فعندما يُقال إن التنظيم اقترع لمارين لوبن عبر تنفيذه العملية في هذا التوقيت في الشانزيليزيه، إنما فعل ذلك بصفته حقاً طبيعياً له. فالانتخابات علاقة افتراضية بين توجهات الناخب وبين مؤسسات السلطة، وبهذا المعنى لـ «داعش» مكان في هذه العلاقة، وإذا كان عنف تعبير «داعش» عن هذا الحق لا تجيزه القوانين، فإن إتاحة صيغة اقتراعية أخرى قد توفر على أوروبا دماء كثيرة. هذا ترميز خيالي وكوميدي، لكن «داعش» صار ناخباً في كل العالم، وعلينا ربما لكي نحد من مقدرته الاقتراعية، أن نقبل بهذه المقدرة.
على العالم أن يعترف بأن هذا الورم الذي أصابه سمم كل شيء، وأن القضية تتعدى أزمة اللاجئين وإدماجهم وهوياتهم. القضية هي أن مجرماً أصبح بإمكانه أن يصير «مجاهداً».