يشتد التوتر بين أطراف النظام اللبناني على مشارف الانتخابات، إلى حد أنه صار يشبه النظام العراقي الحالي في الظروف ذاتها. فقد انشغل السياسيون اللبنانيون منذ أكثر من أسبوع بقصة سوزان الحاج، المقدم في قوى الأمن الداخلي، التي تشتبه أجهزة التحقيق في أنّ لها علاقة بفبركة ملف أمني (علاقة بإسرائيل) للفنان زياد عيتاني. وكان جهاز أمن الدولة في لبنان قد أوقف زياد عيتاني أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، وشاع أنه اعترف اعترافات مهولة أثناء التحقيق، الذي يبدو أنه كان مهولاً أيضاً. المهم أنّ تطورات دراماتيكية حدثت في الأيام الأخيرة في قضية زياد عيتاني، ناجمة عن تبرئة قاضي تحقيق لزياد، واستدعاء المقدم سوزان الحاج للسؤال. رئيس الجمهورية ووزير العدل وجهات مسيحية أُخرى، وقفت مع جهاز أمن الدولة والمقدم الحاج، بينما وقف وزير الداخلية نهاد المشنوق مع زياد عيتاني.
ما انتهت القضية بالطبع بعد؛ لكنّ الفظيع ما يتسرب الآن عن ملفات وإجراءات وأحكام كلها مركبة، ضد ناشطين وناشطات، وأناس عاديين جرى «استيطاء حيطهم» كما يقول اللبنانيون، لاستهداف طرف أو أطراف في الحكومة لهم بدوافع كيدية. وما عادت بعض هذه القضايا سراً؛ لأنّ وزارة العدل – وأحياناً النيابة العامة – استدعت هؤلاء للتحقيق، أو زجّت بهم في المعتقل. أما مئات؛ بل آلاف الشبان المشتبه بهم بالإرهاب، فكثيرٌ منهم لا يزالون في المعتقلات في بلد الحريات. وقبل مدة اكتشف فرع المعلومات بقوى الأمن الداخلي عصابة إرهاب وجاسوسية، فابتسم أحد العارفين في مجلس قائلاً، يا ويلنا من الأمن العام الذي سيزايد بلا شكّ باكتشاف خلية أكبر! لكنّ المفاجأة كانت أن الاكتشاف سبق إليه جهاز أمن الدولة، بزياد عيتاني!
صارت قضايا الحريات رئيسية في هذا العهد وهذه الحكومة؛ لكنّ الأشهر والأقسى قضايا الفساد في المؤسسات والجهات الخدمية، والمشروعات القديمة والجديدة. فلأكثر من عشرة أعوام، وفي ظل تولّي وزراء من التيار الوطني الحر لوزارة الكهرباء، جرى إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على حلولٍ ترقيعية تزيد من الهدر، دون أن تحسِّن خدمات الكهرباء. والآن يريد وزير الطاقة العوني تخصيص خمسين مليون دولار، ليس للبدء بإنشاء معمل؛ بل لدفع أجرة بواخر في البحر لتوليد الطاقة! وهنا اعترض وزير المالية، وتبعه آخرون، وجرى تشاتُم بين الطرفين، تدخل فيه وزراء المستقبل، باعتبار أن وزراء التيار سبق أن وافقوا لهم على مسائل في وزارة الاتصالات، ما كان ينبغي أن تمر بحسب نوابٍ كثيرين!
يريد وزراء التيار الوطني الحر تحقيق أي إنجاز «للمسيحيين»، قبل الانتخابات، أو إيهام المسيحيين بذلك. ومن ضمن ذلك زيادة أعداد الناخبين من المهاجرين اللبنانيين، من أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا وأفريقيا. وقد كان الأهون عليهم حتى الآن التعاون؛ بل التحالف، مع رئيس الحكومة في شؤون التعيينات الدبلوماسية والقضائية، والوظائف العامة الأُخرى، وحتى ترقية ضباط الجيش. وآخِر ما جرى في وزارة الثقافة تعيين مديرين في ثلاث مؤسسات تابعة لها، في اثنتين منها لأنّ الشبان العونيين فازوا بمباريات مجلس الخدمة المدنية، أما في المؤسسة الثالثة؛ فإنّ وزير الثقافة ورئيس الحكومة أعطياها لحلفائهما لأنّ الفائز في مباراتها سني بيروتي!
وعلى فظاعة كل ما جرى ويجري؛ فإنّ الأفظع أو يكاد مع هذا العهد وهذه الحكومة (ربما باستثناء بدايات ونهايات حرب الجرود ضد الإرهاب) فهو قانون الانتخابات، الذي بدأت تداعيات إقراره تتكشف قبل إجرائها بشهرين. هناك النسْبية الكاملة، وهناك تقسيم الدوائر، وهناك الصوت التفضيلي. وبالطبع فإنّ كل أطراف التسوية المشاركين في الحكومة، مسؤولون؛ لأنهم وافقوا على القانون العتيد؛ لكنّ الأكثر مسؤولية – ولا شكّ – رئيس الحكومة، الذي يقر بأنه سيكون أكبر الخاسرين، أما لماذا وافق، وهو فريقٌ سياسي كبير، فهذا علمه عند ذوي البصيرة والبصر، أما هو فقال: «من أجل إنجاح حكومته، وتحقيق الاستقرار»، مع أنّ القانون المذكور هو أحد أهم أسباب عدم الاستقرار، وستكون له آثار فظيعة على الحياة البرلمانية والسياسية لسنواتٍ قادمة. ولنشهد أولى «تباشيره» المتمثلة في اعتزال وزراء ونواب جديين من تيار المستقبل وحلفائه للانتخابات، مثل الرئيس فؤاد السنيورة، والدكتور أحمد فتفت، والوزير معين المرعبي، والنائب فريد مكاري، هذا بالإضافة إلى تعرض آخرين كثيرين لاحتمالات السقوط في الانتخابات!
إنّ هذه الصراعات التي لا يتورع أطراف حكومة التسوية عن استخدام كل شيء فيها، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والقضائية، تؤدي بالطبع إلى تجاهل الدستور وحكم القانون، ولا يعود هناك مقياسٌ للاحتكام إليه؛ لكن لها فضيلة واحدة (أو رذيلة حسبما يرى المراقبون!) فهي تُلهي عن تعرض لبنان لأخطار كبرى بالحرب، من جانب إسرائيل، ومن جانب المذبحة في سوريا، التي ينغمس فيها «حزب الله» والإيرانيون. كيف يكون أطراف التسوية مسؤولين عن هذه التعرض إلى حدودٍ معتبرة: لأنّ بعضهم أسهم في التعريض. فلو كان من ضمن التسوية مثلاً اعتماد مبدأ النأي بالنفس تجاه الأزمة السورية قولاً وفعلاً، ولو كان من ضمن التسوية الإصرار على مراعاة القرارات الدولية الحامية للبنان، لما كان لبنان معرّضاً إلى هذا الحد. إنّ الذي حصل هو العكس تماماً تقريباً. فقد انصرف العهد إلى شرعنة سلاح الحزب، تارة بالقول إنّ سلاح الحزب يردع إسرائيل؛ لأنّ الجيش ضعيف، وتارة بالقول إنه يحمي لبنان من الإرهاب (وهذا يشرعن تدخله في سوريا)، وأخيراً بالقول إنّ صواريخ الحزب تحمي الثروة اللبنانية البحرية! أما رئيس الحكومة فقد انضمّ إلى العهد بإعطاء شهادة حسن سلوك للحزب، أنه لا يستخدم سلاحه بالداخل اللبناني!
ما الذي يمكن عمله بعد فشل التسوية وتخريباتها الفاقعة، وعلى مشهدٍ من القاع الأعمق الذي تتجه إليه الأزمة الاقتصادية الخانقة على أبواب الانتخابات النيابية؟ الانتخابات النيابية ستُعطي الحزب وحلفاءه – حسب كل التقديرات – أغلبية مرتاحة، يمكن حتى استخدامها في شرعنة السلاح في مجلس النواب الجديد. وأطراف التسوية الخمسة أو الستة لن يستطيعوا الخروج منها، ولو فاز بعضهم بمقاعد نيابية، وبقوا في الحكومة بعد الانتخابات. فالذي يمكن عمله رغم الصعوبات القاسية هو فتح منفذ في الحائط الشاهق. وذلك من طريق تحالفات بين القوى السياسية المعارضة للتسوية، ونشطاء المجتمع المدني، والقوى المحلية التي تعرضت للإفقار والتهميش. هؤلاء جميعاً يمكن لهم إيصال البعض إلى الندوة البرلمانية، ليشكلوا مرحلة انتقالية للخروج من ظل وإلغاء القوى الكبرى لهم ولها، فيظلّ الصوتُ عالياً مع الطائف والدستور والعيش المشترك، وضد السلاح غير الشرعي، وحماية الحريات، وحكم القانون. وهذا هو الحد الأدنى الضروري لبقاء الدولة والشرعية الوطنية والعربية والدولية للبنان.