يواجه العالم الاسلامي أزمة. ان تعريف الأزمة هو نصف الطريق الى حلّها. ولكن عندما يكون للأزمة أكثر من تعريف، تتعدد مقاربات الحلّ، وتتصادم، فيعطل بعضها بعضاً. وتبقى الأزمة.
ليس العالم الاسلامي عالماً قائماً في ذاته. انه جزء من عالم أوسع. خاصة في ظل العولمة، وفي ظل واقع جديد يتمثل بوجود 600 مليون مسلم في دول ومجتمعات غير اسلامية. ولذلك فان أزمته هي أزمة في هذا العالم الأوسع. وهي مرشحة لأن تصبح أزمة مع هذا العالم الأوسع.
ان المدخل الى معالجة الأزمة هو الاعتراف بوجودها. ومفتاح هذا المدخل هو الاعتراف بالمسؤولية الذاتية.
تنطلق المسؤولية الذاتية من الإقرار بوجود خطأ ما في مكان ما، أدت تراكماته الى انفجار الأزمة.
من هنا السؤال: اين الخطأ؟
عرف الاسلام خلال القرون الخمسة عشر الماضية حالات مدّ وجزر، انفتاح وانغلاق.. ازدهار وانكماش.. اجتهد الفقهاء خلالها في استنباط الأحكام بما يتوافق مع هذه الحركة من المتغيرات. غير ان الذي حدث بعد ذلك هو ان عملية الاستنباط توقفت – أو أُوقفت – فيما تواصلت حركة التاريخ، وبوتيرة اسرع، وأشد عمقاً وأوسع مدىً.
اختلط على الكثيرين مبدأ قدسية النص القرآني بواقع الفهم الانساني غير المقدس لهذا النص. فاعتبرت اجتهادات فقهاء سابقين، أو جرى التعامل معها، وكأنها مقدسة أيضاً. في الاساس لا يكون مقدساً إلا ما هو وحي من الله كالقرآن الكريم. فهو نص ثابت غير متغير ومطلق المعرفة. غير ان فهم هذا النص هو فهم انساني. ولذلك فهو فهم غير مقدس مفتوح على الخطأ والصواب. وهو فهم نسبي المعرفة، يتغير مع تغير الظروف والأوضاع والمعطيات.
وتتغير المعرفة بانفتاح الآفاق أمام الجديد من المعارف التي لم تكن في السابق في متناول العقل البشري. وفي ضوء وتيرة التقدم العلمي والمعرفي في الكون وفي النفس الانسانية، فان انسان القرن الثاني والعشرين، بل ان انسان منتصف القرن الحالي، سوف يواجه تحديات جديدة تحتاج الى مقاربات جديدة والى أحكام فقهية جديدة. ولكن اذا استمر التعامل مع الاجتهادات السابقة على انها اجتهادات للمستقبل أيضاً.. اي على انها كالنص القرآني اجتهادات مقدسة ثابتة واطلاقية المعرفية لا يأتيها الباطل من بين أيديها أو من خلفها، فان معنى ذلك ان حجم الأزمة الحالية، سيبدو صغيراً جداً أمام حجم الأزمة القادمة.
لا العالم الاسلامي يستطيع ان يتحمل أزمة من هذا النوع، ولا العالم يستطيع أن يتحمل أزمة في العالم الاسلامي، أو معه في هذا الحجم.
بصورة عامة تقوم الثقافة الدينية على التقليد وليس على التجديد. ففي التجديد مغامرة ومخاطرة. وفي التقليد السلامة. ولكن هذه السلامة وهمية. وهي في جزء منها على الأقل ثقافة تضليلية لأنها أولاً لا تتماشى مع متطلبات العصر ولا تواجه التحديات التي يفرضها، ولأنها ثانياً، تضفي القداسة على ما هو غير مقدس من مفاهيم واجتهادات تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة كما كانت في زمانها. وهي تروج بالتالي لثقافة التغني بالماضي وتقديسه ولشيطنة الحاضر وتسفيهه.
فبعض العلماء، بل قلّة منهم ممن يرتاحون الى التقليد يؤثرونه على مواجهة صعوبات التجديد واشكالياته. ذلك ان السير في طريق جاهز معبّد وسالك، ليس كالعمل على شق طريق جديد وسط العقبات والمنحدرات والمرتفعات وسواها من التحديات الطبيعية والطارئة.
يروّج مثل هؤلاء العلماء لهذا النوع من الثقافة الدينية المرتاحة الى مخدة الماضي في مجتمعات توليهم احتراماً كبيراً لمجرد انهم علماء دين ؛ فهم يتقدمون الصفوف ويؤمون الصلاة ويعتلون المنابر، وتسمع كلمتهم باعتبارها كلمة الاسلام والدعوة الى الله. وهذا يعني وضع هذه المجتمعات في مواجهتها لمتغيرات العصر أمام مفاهيم عصر مضى وأحكام صيغت لذلك العصر الذي مضى. وهي مواجهة متعثرة، بل مواجهة خاسرة لأن المتغيرات تتواصل وتتعمق. فيما تبقى المفاهيم جامدة وثابتة.
أدى هذا الواقع الى أمرين خطيرين:
الأمر الأول هو انتشار الاعتقاد الخاطئ والظالم بأنه ليس صحيحاً ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان. وهو اعتقاد ينفّر بعض ضعاف النفوس من المسلمين من الاسلام ويشوّه في أذهانهم صورته وصدقيته.
أما الأمر الثاني فهو الترويج لاعتقاد خاطئ وظالم آخر. وهو ان العصر الذهبي للاسلام هو عصر ماضٍ، وأن التغني بهذا الماضي والعودة –النرجسية- اليه، وليس العمل الجاد والمتعب معاً على صناعة المستقبل، هو الطريق الذي يرفع من شأن المسلمين، ويعلي راية الاسلام عالياً من جديد بين أمم الأرض.
قبل أقل من قرن وتحديدا في عام 1929 نشر المفكر الاسلامي الباكستاني محمد إقبال كتابه الشهير «إعادة بناء الفكر الديني في الاسلام».. فإذا كان المطلوب في ذلك الوقت اعادة البناء.. فما هو المطلوب اليوم وقد بلغ من سوء توظيف الدين ومن سوء تأويله ما بلغه من تضليل وتشويه؟..
في العام الماضي (2016) نشر المفكر الاسلامي المصري الدكتور محمود زقزوق (وزير الأوقاف السابق) كتاباً جديداً له عنوانه «تأملات في أزمة الفكر الاسلامي المعاصر: نظرة نقدية». وفي نظرته النقدية تلك، يعترف بألم بأن العلوم الاسلامية لم تتطور كثيراً عما كانت عليه قبل قرون، وانها تعيش «عصر الاجترار الثقافي». ولذلك دعا في كتابه الى التحرر من الجمود الفكري والى مواجهة تحديات العصر التي لا تنتهي.
ويجهر الدكتور زقزوق بالحقيقة التالية، وهي ان العيب ليس في الدين ولكن في الفهم السقيم للدين. ويعزو التخلف والجمود والقصور في مسيرة الاسلام ليس للدين، وانما الى عقول تحجرت وقلوب تبددت وأفهام قصرت عن إدراك جوهر الدين وجوهر الحياة.
وبين محمد إقبال في باكستان (1929) ومحمود زقزوق في مصر (2016) ارتفع صوت الأمير شكيب أرسلان من لبنان محذراً مما سماه «العقول الجامدة» التي كما وصفها «لا تريد ان تغير شيئاً، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على اصول التعليم الاسلامي لاعتقادهم بأن الإقتداء بالكفار كفر، وأن نظام التعليم الحديث وضعه الكفار».
واليوم، وبعد مرور عقدين تقريباً من القرن الواحد والعشرين لا يزال هذا المنطق قائماً ومستمراً. ولا تزال الدعوة الى الانفتاح والتجديد تلقى آذاناً صماء، ولا يزال اصحاب هذه الدعوة يتعرضون للإدانة والتكفير.
يقف العقل الاجتهادي الاسلامي مكتوف اليدين أمام الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والاتصالات والفضائيات من اكتشاف كنه الثقوب السوداء الى إرسال أجرام اصطناعية الى محيط الشمس. كما يقف مرتبكاً أمام ثورة صناعة الأجنّة في المختبرات.. وأمام سبر أغوار الدماغ الانساني وتفاعلاته.
أما الاجتهاد الخلّاق لدى هؤلاء التكفيريين، فهو «جهاد النكاح» في الدنيا، وجهاد «الحور العين» في الآخرة.
من هنا فان جوهر الأزمة يكمن في الحقيقة التالية. وهي ان الاسلام كدين أوحى به الله رحمة للعالمين لا يدعو الى التطرف ولا يحضّ على الارهاب. بل ان الجهل بالدين يصنع التطرف واستغلال الدين يحضّ على الارهاب.
ان الجهل والاستغلال وجهان لحالة لازمة واحدة. فلا يمكن قطع الطريق أمام الاستغلال من دون القضاء على الجهل. ولا يمكن القضاء على الجهل من دون الانفتاح على آفاق المعارف الانسانية.