IMLebanon

عن لبنان وأزمة الحكم.. وحلّ الدولة المدنيّة تجنباً للكارثة!

 

يوم بعد الآخر يتضح أكثر فأكثر أنها ليست أزمة تشكيل للحكومة التي ألف مثلها لبنان في السابق، بل هي أبعد من ذلك لتشكل أزمة حكم ونظام.

 

وفي غمرة التفاوض التحاصصي في ما بين المنظومة الحاكمة، تم فرض التناتش السلطوي للسياسيين طويلاً من قوى الأمر الواقع على اللبنانيين، مستثمرين هذا التحاصص الطائفي الذي سمح به نظام الحكم منذ فجر تاريخ الكيان اللبناني وما قبله.

 

أدى التنازع الطائفي والمذهبي على المغانم إلى تعطيل الحياة السياسية لفترات طويلة كما هو حاصل اليوم في بلد مأزوم، وتمظهر ذلك خاصة خلال مرحلة ما بعد إتفاق الطائف، وإن شهدت فترة ما قبل العام 2005 عام الخروج السوري من لبنان، فرضاً سريعاً لحكومات عديدة لا يرضى بها اللبنانيون.

 

لكن الواقع المؤسف مؤداه أن ما يحدث هذه الايام ليس نتيجة أزمة حكومية، بل أن الموضوع يتخطى ذلك للحديث عن أزمة حكم حصلت وستحدث مجددا نتيجة ما يراه الخبراء الدستوريون تأزم النظام. وهذا التأزم لا يعود الى اليوم طبعا، ويضرب في التاريخ منذ ما قبل تأسيس الكيان اللبناني في العام 1920، الى القرن الثامن عشر، وبعده في حقبة ما بعد الاستقلال الوطني في العام 1943 ثم مع إتفاق الطائف العام 1989 الذي جاء معدِّلا لصيغة الجمهورية الاولى بعد حرب مدمرة ودماء سالت لستة عشر عاماً!

 

أراد المؤسسون من الصيغة المبتكرة التي ليست فريدة في العالم وإن كانت نادرة جداً، إستثمار إيجابية التنوع في لبنان القائم على كيانات طوائفية ومذهبية تعكس تنوعا ثقافيا وحضاريا. لكن الحلم المشروع في إدارة التنوع الحاصل شيء، والواقع المعاش عبر عشرات السنين شيء آخر تماما، أدى الى تعثر التجربة.

 

وعلى مدار تاريخ الكيان، إنعكست التناقضات البنيوية تدخلات خارجية لم ترحم البلد، فتفجرت الاختلافات خلافات وتوترات وأحيانا حروبا أهلية جاءت بإتفاق الطائف الذي اعتقد اللبنانيون أنه سيضع حدا لتناقضاتهم.

 

عقد سياسي جديد؟

 

لكن الاتفاق لم يكن سوى هدنة على ما يبدو لوقف حمام الدم، من دون إجتراح حل للمعضلة الطائفية للنظام الذي، للأسف، ترسخت طائفيته ومذهبيته في شكل صارخ وليست الازمة الحكومية الحالية في البلاد سوى نتيجة طبيعية لها.

 

والمؤلم في الأمر اليوم أن المسؤولين لم يتعظوا مما حدث في لبنان منذ نحو عام خاصة، حتى هذه اللحظة.

 

إنتفاضة شعبية في البلاد على فساد المسؤولين، أزمة إقتصادية ومالية وإجتماعية تعكس الخلل السياسي في النظام، وباء كارثي يفتك بحياة اللبنانيين، وأخيرا وليس آخراً إنفجار المرفأ الذي أشعل المزيد من نار المأساة اللبنانية المتوالية فصولاً.

 

اليوم، ليس ما يحدث بين السياسيين خلافاً تحاصصياً فقط، فبين ثنايا الأزمة الحكومية ثمة صراع على النظام يعكس التغيّرات الكبيرة التي حصلت في البلاد منذ التوصل الى اتفاق الطائف قبل نحو 31 عاماً.

 

والحال أن الأزمة تتغذى من الخلل العميق الذي يشوب الدستور اللبناني الذي لا ينص على كيفية توزيع المناصب الوزارية على الطوائف على عكس ما هو متداول ومُشاع، وهو الأمر الذي ينطبق طبعاً على ما يسمى بالوزارات السيادية التي خرج رئيس الجمهورية لخلع عباءة توزيعها الطائفي، لكن ذلك ليس كافياً.

 

ومن ناحية المبدأ، فقد ألغى الطائف طائفية الوظائف، بإستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادل تلك الفئة فيها، على أن تتشكل مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لطائفة ما. والأمر سيّان بالنسبة الى توزيع الرئاسات والذي لم يكرسه الطائف الذي تحدث عن التساوي بين المسلمين والمسيحيين ونسبياً بين الطوائف والمناطق في مجلس النواب، وهو ما كان عرفاً في الماضي وتكرس بعد الحرب بفعل موازين القوى التي تمخضت عنها.

 

وما حصل من توزيع للمناصب بعد الطائف كان ببساطة أعرافا إستمدت قوتها من تكرارها لتصبح واقعاً على الأرض بقوة الدستور والقانون. وهو ما يجعل من الصعب مواجهة حجة الذين يرفعون مبدأ المداورة في وظائف الفئة الأولى في الدولة، وهم الذين يدعون أيضا الى تطبيق الطائف عبر إنشاء مجلس للشيوخ يضم «العائلات الروحية»، أي الطوائف، عملاً بالمادة 22 منه وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، على أن يرتبط بمجلس نواب خارج القيد الطائفي، وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية حسب المادة 95.

 

أما بالنسبة الى الحكومة، فقد تم التأكيد على مراعاتها التوزيع الطائفي نصاً في المرحلة الانتقالية فقط، لكن من دون حجز حقائب لطوائف معينة. أي بكلام آخر، لا نص واضحاً على إيلاء وزارة المال الى الطائفة الشيعية أو غيرها.. أقله حتى الإطلاع على محاضر الطائف التي لا تزال في حوزة رئيس مجلس النواب خلال تشكيل الطائف حسين الحسيني.

 

وما يجري اليوم هو صراع لترسيخ أعراف جديدة في تجديد لما تشكل في السابق، لكن ذلك سيكون صعبا من دون توافق داخلي مهما كانت اليوم الجهة التي تميل إليها كفة الصراع.

 

وفي هذه الاثناء، لا مفر من تقطيع للوقت وصياغة توافقات سياسية لتشكيل الحكومات، قبل الاتفاق على قانون حديث للانتخاب يفرز طبقة سياسية جديدة إذا تحمّل الشعب اللبناني فعلاً مسؤولية التغيير. على أن يتم ذلك على مراحل شرط التمثيل الوطني العادل، وذلك قبل عقد طاولة حوار حقيقية وموسعة تؤدي الى عقد سياسي جديد قد يكون تحديثا للنظام أو توافقا إجرائيا على تنفيذ إصلاحاته.

 

أما البحث عن تغيير دراماتيكي للنظام في هذه اللحظة السياسية وفي ظل الأزمة المعيشية الكارثية التي يعيشها اللبنانيون، فقد يؤدي الى ما هو أسوأ والى غالب ومغلوب ما قد يؤدي بدوره الى توترات أهلية وربما حروب جديدة.

 

وهذا ما يحذر كثيرون منه عبر فرض صياغة نظام جديد على جثة الطائف، لذا من المفيد التدرج خطوة خطوة في الحل في إطار النظام الديمقراطي البرلماني، ومن ثم تقييم التجربة مع المحافظة على الإستقرار السياسي وهو مفتاح الإستقرار الإقتصادي والنقدي والإجتماعي. وسيكون من شأن ذلك تسهيل المرور نحو الدولة المدنية المنشودة التي تحكمها قوانين مدنية تُساوي بين المواطنين ويتقدم فيها الولاء الوطني على حساب الإنتماءات الأخرى لتشكل الوطن – الدولة الحقيقي الضامن للجميع.