Site icon IMLebanon

أزمة باريس وروما تهزّ أوروبا

 

بعدما شغلت فرنسا العالم بأزماتها الداخلية، واحتجاجات «السترات الصفر» التي هزّتها، ها هي تدخل أزمةً خارجية «غير مسبوقة» منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مع جارتها إيطاليا، ما يسلّط الضوء على تصدّعات جديدة في صفوف الإتّحاد الأوروبي، بطلاها من مؤسّسي الإتّحاد.

 

من الواضح أنّ أعداء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تخطّوا حدود فرنسا الجغرافية، فبات له أعداء على كراسي الحكم في روما، يمدّون أيديهم إلى أعدائه «الصفر» في الداخل، ليشكّلوا شبكة هدفها زيادة الضغط عليه، ليس داخل فرنسا وحسب، إنما في انتخابات البرلمان الأوروبي المتوقّعة في 26 أيّار المقبل.

 

ماكرون من أبرز المناصرين لأوروبا موحّدة، بينما وصلت إلى سدّة الحكم في إيطاليا «حركة خمس نجوم» بزعامة نائب رئيس الحكومة لويجي دي مايو، إلى جانب حزب الرابطة اليميني بزعامة وزير الداخلية ماتيو سالفيني، في حزيران 2018 وشكّلا حكومة مشكّكة في الاتحاد الأوروبي، بعدما كانت إيطاليا لعقود أحد أبرز رؤوسه.

 

ويحاول هؤلاء تعزيز صفوف الجبهة اليمينية المتطرّفة في أوروبا، ضد المؤيدين للاتحاد. وقد أتى مدّهم الأيدي لمسؤولين من «السترات الصفر» في فرنسا، تحقيقاً لهذه الغاية، خصوصاً أنّ حركة «السترات الصفر» تعتزم ترشيح بعض كوادرها إلى انتخابات البرلمان الأوروبي، بينما يترشح أيضاً كلّ من دي مايو وسالفيني.

 

ولا يبدو أنّ الأزمة المتصاعدة بين باريس وروما، محض انتخابية وتديرها مصالح وشهوات في اكتساب بعض المقاعد الإضافية في البرلمان الأوروبي فقط، بل إنّ جذورها تمتد لتطال ملفات أوروبية شائكة تبدأ بالهجرة، ومستقبل الاتحاد الأوروبي الذي سيشهد أكبر هزّاته أواخر آذار المقبل، موعد «بريكست»، وتصل إلى ليبيا حيث تتصارع الدولتان على اقتسام النفوذ والثروات.

 

ليبيا والهجرة

 

إلى ذلك بدأت الهجمات الكلامية بين باريس وروما الصيف الماضي حين منعت ايطاليا السفن التي تُنقذ مهاجرين من الرسوّ قرب موانئها، القرار الذي اعتبره ماكرون «غير مسؤول».

 

وفي المقابل أعلن سالفيني أنّ فرنسا لا ترغب في استقرار الوضع في ليبيا، «ربما بسبب تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا»، بعدما كان دي مايو اتهم باريس بإشاعة الفقر في أفريقيا والتسبّب في تدفّق المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا.

 

فالحلبة الليبية مسرح اندلاع الصراع الفرنسي- الإيطالي، بعد تراكمات. بالنسبة لإيطاليا مثّلت ليبيا دوماً طموحاً استراتيجياً، خصوصاً أنّ ايطاليا أقرب بلد أوروبي لليبيا جغرافياً، وهي مستعمرة إيطالية سابقة من 1911 إلى 1943.

 

لكنّ باريس صوّبت أنظارها على الثروات الليبية، وقادت تدخّل حلف «الناتو» الذي أطاح بحكم العقيد معمر القذافي عام 2011، ومنحها موطئ قدم في البلد الافريقي ما أثار استياءً إيطالياً.

 

وأتت الضربة القاضية بعد خسارة شركات ايطالية أهمّها «ايني» الكثير من العقود في ليبيا لصالح شركات فرنسية أبرزها «توتال»، إثر جمع ماكرون الأفرقاء الليبيين في باريس لإيجاد تسوية للأزمات في بلادهم، في أيار الماضي.

 

ويزيد غضب إيطاليا أنّ فرنسا تدعم سياسياً المشير خليفة حفتر غريم فايز السراج، رئيس مجلس الرئاسة ورئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية الليبية المعترَف بها من قِبل الأمم المتحدة، والمدعومة من ايطاليا.

 

وتُضاف إلى الأزمات بين فرنسا وإيطاليا مطالبة الحكومة الإيطالية باريس بتسليم 14 إيطالياً مطلوبين بتهمة الإرهاب، فرّوا إلى فرنسا.

 

صعود «اليمين المتطرّف»

 

وما زاد الطين بلّة، أنّ دول العالم لم تتدخّل بعد لرأب الصدع المتفاقم بين باريس وروما، بينما امتنعت المفوضية الأوروبية عن التدخّل معتبرةً أنها مسألة ثنائية. ومن الواضح أنّ روما ترفع الصوت متسلّحة بتنامي نزعة «اليمين المتطرف» داخلها وفي أنحاء أوروبا.

 

هذا اليمين الذي يُعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عرّابه وكبير ممثليه من خلال معاداته للمهاجرين ودعمه عدّة قيادات أوروبية تجسّده، منها زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا مارين لوبان، وأيضاً الحكومة الإيطالية.

 

وقد كرّر ترامب دعمه لرئيسها جوزيبي كونتي مشيداً بسياسته «المتشدّدة جداً إزاء الهجرة»، وذلك في عزّ خلاف الحكومة الإيطالية مع ماكرون حول الهجرة.

 

من جهة ثانية، لا ترفع واشنطن أنظارها عن التقارب الفرنسي الألماني، الذي تمخّض معاهدة وقّعها ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لخوض الرهانات المستقبلية معاً، بينها الدفاع عن أراضي البلدين في حال التعرّض لأيّ عدوان، والمساهمة في إنشاء جيش أوروبي. جيشٌ كان ماكرون دعا إلى تأسيسه في وجه الصين وروسيا وحتّى الولايات المتحدّة، ما أثار استياء ترامب.

 

وتشير هذه المعطيات أنّ إدارة ترامب قد تستفيد ضمنيّاً من الأزمة بين فرنسا وإيطاليا، وتؤجّجها داعمةً الحكومة الإيطالية ضد ماكرون، بهدف إضعافه، وتقويض «الجيش الأوروبي» الذي يسعى إليه.

 

ولكن، في داخل ايطاليا تطالب العديد من الأصوات بتهدئة الأجواء مع الجارة الفرنسية خشية إقحام روما نفسها في عزلة مع سير العلاقات بين باريس وبرلين خطوات إيجابية إلى الأمام.

 

وردّ سالفيني أمس مؤكداً استعداده لاستقبال نظيره الفرنسي كريستوف كاستانير «في روما أو الذهاب إلى باريس، ابتداءً من هذا الأسبوع»، من أجل «علاقات جيدة من جديد» مع فرنسا التي استدعت الخميس سفيرَها في روما.

 

إلّا أنّ كل هذه الملفات الشائكة بين روما وباريس تُنذر بأنّ المشادّات الكلامية والسجالات السياسية قابلة للتفاقم، إذ يحرّكها اختلاف في التوجّهات السياسية، وصراع على النفوذ والمصالح، قادر على هزّ الوحدة الأوروبية.