دخلت «أزمة الدولار» مرحلة الإجراءات الاستثنائية: تقييد عملية فتح الاعتمادات المالية للمستوردين، تحديد سقوف السحوبات النقدية اليومية، سواء عبر الصرّاف الآلي، أو من داخل المصرف، تحويل إلزامي للسحوبات المطلوبة بالدولار إلى الليرة، امتناع عن تحويل الودائع من الليرة إلى الدولار…
طبعاً تتفاوت شدّة هذه الإجراءات بين مصرف وآخر، إلّا أن القاسم المُشترك بينها، وربّما يكون الأكثر خطورة في الوقت الحالي، هو تمريرها بصمتٍ ومن دون أي إعلان صريح أو تعميم واضح ينظّمها. بمعنى آخر، تُفرَض هذه الإجراءات الاستثنائية – وهي شبيهة بما شهدته اليونان في مراحل متقدّمة من أزمتها – بطريقة استنسابية وانتقائية بين الزبائن، تؤدّي بالنتيجة إلى تحميل «صغار العملاء» الخسائر الأكبر في مقابل تخصيص «الكبار» منهم بمعاملة تفضيلية.
تقييد السحب والتحويل
تفيد مصادر في مصارف عدّة عن «تطوّر الأزمة في البلاد، ما أدّى إلى تشديد الإجراءات المُتبعة على العمليات المصرفية للحدّ من سحب الدولار وإخراجه من القطاع المصرفي».
تتفاوت هذه الإجراءات بين مصرف وآخر، ومن بينها:
1) إيقاف بعض المصارف (غالبيتها صغيرة) عمليات السحب بالدولار عبر الصرّاف الآلي، حتى لو كان حساب العميل بالدولار، فيما حدّدت مصارف أخرى سقفاً للسحوبات النقدية يبدأ من 500 دولار. أمّا بالنسبة إلى التجّار، فقد حدّدت سقوف أعلى بمعدّلات متفاوتة وفقاً لحجم أعمال كلّ شركة.
2) إيقاف عمليات التحويل من الليرة إلى الدولار عند السحب والإيداع، وإلزام العميل بسحب الأموال وفقاً للعملة التي لديه فيها حساب مصرفي، أو دفع عمولة لشراء الدولار (3 بالألف في بعض المصارف، وتختلف بين مصرف وآخرب ووفقاً للزبون).
3) وضع سقوف لكلّ عمليات الصرافة عبر الإنترنت، وإقفال حسابات الإنترنت في حال تكرار عمليات السحب بأكثر مما هو مسموح به يومياً. كذلك وقف عمليات الصرافة على الصندوق إلّا في حالات استثنائية، مثل دفع سند بالليرة لقرض بالدولار، علماً أن بعض المصارف لم تعد تستقبل قيمة السندات بالليرة، بل تصرّ على استيفائها بالدولار.
4) إلغاء الحوافز التي يحصل عليها الموظّفون لقاء طلبات القروض، ولا سيّما بالدولار، والمُماطلة بالموافقة عليها، وهو ما يعني عملياً تخفيض القروض الممنوحة إلى مستويات متدنية.
هل عدم منع التحويل إلى الخارج يهدف إلى منح كبار المودعين فرصة للهروب؟
وفقاً لمدير في أحد أكبر المصارف، فإن «هذه الإجراءات طبيعية في العمل المصرفي على عكس حالة التفلّت التي كانت سائدة في السابق، حيث كان يمكن سحب الوديعة قبل استحقاقها والتحويل بحرّية من عملة إلى أخرى، إلّا أن تطبيقها في الوقت الراهن لا يأتي ضمن سياق تنظيم العمل المصرفي، بل تحت ضغط الأزمة الناتجة من تراجع التدفّقات المالية إلى لبنان، في مقابل تنامي الالتزامات المترتبة بالعملة الأجنبية تجاه الخارج، التي يخصّص معظمها لتمويل الاستيراد ودفع فوائد القروض والودائع غير المقيمة وتحويل رواتب العمّال الأجانب في لبنان».
تحديد الخاسرين والرابحين
تتناقض هذه الإجراءات مع ما أعلنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مؤتمر صحافي يوم الاثنين الماضي، عن أن «لا ضرورة لأي إجراءات خاصّة، لأن السيولة بالدولار متوافرة ومصرف لبنان يؤمّنها للمصارف». ومن جهة ثانية، تتخذ الإجراءات بلا إعلان عنها، وتُطبَّق انتقائياً.
يقول مسؤول سابق في مصرف لبنان إن «المطلوب في المرحلة الراهنة، أن تحدّد الحكومة ومصرف لبنان الضوابط المالية والإعلان عنها وتنظيمها لتطاول الجميع، لا ترك الأمور فوضوية وإلزام الأضعف بهذه الإجراءات، في مقابل تفلّت كبار المودعين والعملاء منها، ولا سيّما أن هذه الإجراءات تدلّ على تطوّر الأزمة وبدء انهيار النظام القائم. بالإضافة إلى إخضاع عملية استيراد السلع الأساسية لترتيبات خاصّة كي لا تكون جزءاً من الفوضى الحاصلة، وقد أعلن حاكم مصرف لبنان فعلاً إصدار تعميم الثلاثاء المقبل ينظّم تمويل استيراد القمح والدواء والمحروقات».
إلى ذلك، يشير الباحث في جامعة هارفرد دان قزي، إلى أن «هذه الإجراءات وكيفية تعامل البنك المركزي معها تدلّ على أنه لا يوجد مانع لدى البنك المركزي بتشكّل سوق موازية لشراء الدولار، لأن ذلك يؤدّي إلى تقليل الاستيراد بعدما عجزت الحكومة عن فرض ضريبة 3% على الاستيراد، وهو أمر جيّد، إذ يحدّ من نزف الدولارات. إلّا أن التحدّي الأساسي يكمن في ما إذا كان البنك المركزي سيتدخّل في حال ارتفاع سعر الصرف إلى أكثر من 1600 ليرة، لأن ذلك قد يسبّب صدمة لدى الناس، قد تتبعها هجمة سحوبات من المصارف». ويتابع قزي: «أمّا السؤال الأساسي فهو عن سبب عدم منع السحوبات والتحويلات إلى الخارج حتى الآن، وهو ما يؤدّي إلى فرضيتين: إمّا أن البنك المركزي لا يريد التأثير بتدفّق التحويلات نحو لبنان، أو أنه يعطي فرصة لهروب كبار المودعين خارج لبنان، وبالتالي إعفائهم من عملية قصّ الودائع التي قد تحصل إذا تطوّرت الأزمة أكثر».