Site icon IMLebanon

تناغم بطريركيّ – عونيّ كامل في أزمة النازحين والموقف من دمشق

   

أخيراً، تحوّل ملف النزوح السوريّ إلى الشغل الشاغل للبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي. وإذا كان هناك مهمّ وأهم، فإن البطريركية تقول اليوم إن ما من أمر أهم، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، من معالجة هذا الملف الذي يُحرج من يطبّلون للبطريركية ومواقفها حين تتقاطع مع أيّ من طروحاتهم، ويغضّون الطرف عنها حين تتعارض مع أجنداتهم ومؤامراتهم، أو حين تتكامل مع ما يؤكده رئيس الجمهورية ميشال عون منذ سنوات عن «الحياد المستحيل» في هذه القضية وفي غيرها من القضايا الاستراتيجية.

 

في مقابلته التلفزيونية الأخيرة (التي لم تدع القوات اللبنانية إلى تظاهرة تأييد للبطريرك فور انتهائها)، لم يكتف الراعي بالقول إن انشغاله بالصلاة لم يتح له سماع خطاب سمير جعجع في «القداس السنوي لشهداء القوات»، رغم أن القداس كان برعايته؛ ولم يكتف بالسؤال الاستنكاريّ عن معنى «رئيس المواجهة» الذي يطرحه جعجع وما إن كان الأخير يقصد مواجهة التحديات لحل المشاكل أو أمراً آخر… بل ذهب أبعد من ذلك بكثير حين سأله محاوره عن «دويلة حزب الله»، فأجاب بأن البلد مليء بالدويلات، مبدياً نفوره من مصطلح «البلد المخطوف»، بدل أن يثني ويوافق كما كان يرغب المحاور ومن يقف خلف أسئلته ومحطته التلفزيونية. كما خرج البطريرك أيضاً عن توقّعات المحاور حين قال، بوضوح، إن ظروف حكم الرئيس عون كانت صعبة داخلياً وخارجياً، وإن عون دخل القصر كبيراً وسيخرج منه كبيراً، علماً أن الراعي من قلّة قليلة لم تتنكّر لعلاقتها الوطيدة بالرئيس عون بعد 17 تشرين، فواصل زيارة القصر للتصدي على طريقته للدعوات إلى «خلع» الرئيس.

أمام زواره في الديمان، يسرد البطريرك تفاصيل زيارات طارئة خاطفة وبعضاً من محاضر اجتماعاته مع كبار المسؤولين في العالم، ما يشير إلى أن البطريركية تخوض، بعيداً عن الأنظار، معركة كبرى مع ما يوصف بالمجتمع الدوليّ في ما يخصّ النازحين السوريين. وينقل أحد الزوار عن الراعي أنه سارع إلى زيارة الفاتيكان حين سمع البابا يتحدث عن «استيعاب النازحين» في مجتمعاتهم بعد الحرب الأوكرانية ليشرح له خطورة مثل هذه الدعوة على لبنان، وأن البطريرك كان واضحاً، ومن دون تدوير للزوايا، عندما تحدث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مستوى الخطر المحدق بالكيان، مؤكّداً له أن الحديث عن «العودة الآمنة» للنازحين ليس إلا مكابرة أوروبية لعدم الاعتراف بانتصار الرئيس السوري بشار الأسد وانتهاء الحرب لمصلحته. وفي كل من الفاتيكان وباريس، طرح البطريرك المارونيّ ما سبق أن ناقشه بالتفصيل مع رئيس الجمهورية.

 

ويقول زوار البطريرك إنه لا ينفكّ يذكّر بزيارته لدمشق عام 2013 حين توقف كثر من أصدقائها اللبنانيين المفترضين عن ذلك، مشيراً إلى أن خياره كان صائباً، رغم كل ما لقيه من تهديد وتخوين ومزايدات، خصوصاً ممن يدينون للنظام في سوريا بكل ما وصلوا إليه، مسمياً أكثر من نائب سابق بالاسم. وهو كان قد وضع لزيارته تلك عنوانين أساسيَّيْن: إعادة النازحين (وكانوا بعشرات الألوف يومها)، وإيجاد حلول دبلوماسية لكل الأمور العالقة بين البلدين.

اليوم، يتبنّى البطريرك خطاب رئيس الجمهورية كاملاً في هذا الموضوع، مطالباً بتفاوض لبنان رسمياً مع السوريين، و«سؤال الرئيس السوري بشار الأسد عن رأيه بدل التنبّؤ بموقفه»، معتبراً في المقابلة نفسها أن اللبنانيين «غريبون من نوعهم… يريدون عودة السوريين إلى بلدهم من دون التواصل مع سوريا»، مع انتقاده المجتمع الدولي الذي لا يريد الاعتراف بانتصار الأسد، محمّلاً هذا «المجتمع الدوليّ» مسؤولية هذه الأزمة التي لا يمكن التفكير بمعالجة الأزمات اللبنانية قبل التوصل إلى حل لها. وإذا كان الوقت كفيلاً بكل شيء، فإن الوقت في هذا الملف بالذات أوصل البطريرك الماروني إلى مصارحة الرأي العام – ولو بشكل غير مباشر – بأن كل ما فعله خصوم العونيين داخل السلطة وخارجها في هذا الملف كان جريمة في حق البلد.

هذا التقاطع الأساسيّ في ترتيب سلم الأولويات بين البطريركية والعونيين لا يقف عند الحدود الاستراتيجية العليا، إنما يطاول – في هذه اللحظة من دون أن يضمن أحد الغد – عناوين سياسية أخرى. ففي ملف المطران موسى الحاج، نجحت المبادرات العونية في احتواء الأزمة. وفي ملف القاضي الرديف نسج البطريرك بنفسه كل الغطاء اللازم و«أخذها بصدره» بعد اقتناعه بالظلم اللاحق بالموقوفين الذين لم يعد في وسع القاضي طارق البيطار الإفراج عنهم رغم اقتناعه ببراءتهم. وكان لافتاً انضمامه إلى رئيس الجمهورية في طلب التعاون الدولي مع المحكمة اللبنانية (عبر تقديم ما لديهم من صور جويّة ومعلومات مثلاً). أما الأهم، على مستوى التقاطعات، فهو صرامة بكركي – حتى الآن – في عدم تغطية طموحات الرئيس نجيب ميقاتي بإعطاء شرعية صلاحيات كاملة لحكومة تصريف الأعمال المستقيلة (سواء في ما يخص توقيع المعاهدات الدولية كترسيم الحدود مثلاً أو غيرها). وقد وصل إلى كل من يعنيهم الأمر، في الداخل والخارج، كلام واضح عن عدم قبول التعامل مع رئاسة الجمهورية كمكسر عصا أياً كانت التفسيرات الدستورية.

 

 

هذا التناغم بين البطريركية المارونية والعونيين، مع حرص بطريركي واضح على التهدئة مع حزب الله بعد ملاحظة البطريركية التزام الحزب على جميع المستويات بعدم الردّ، لا يعني أبداً تطابقاً تاماً. التناغم أو التقاطع في قضايا محددة لا يعني أن البطريرك استحصل على بطاقة حزبية عونية كما تصور القوات حين يتقاطع موقف للراعي مع موقفها في إحدى القضايا. لكنه تناغم مبنيّ على مساحة مشتركة كبيرة، يمكن أن تتوسع وتتطور في أكثر من اتجاه، إذا ما أحسن التيار الوطني الحر من جهة وحزب الله من جهة أخرى التقاط اللحظة. مع الأخذ في الحسبان أن تجربة التيار بالبناء مع البطريركية على الإيجابيات مهما كانت صغيرة أثبتت نجاحها (بدليل، ما ورد أعلاه)، أما البناء على السلبيات فلا يفيد بشيء، ما يستوجب إعادة نظر من كل من البطريركية المارونية وحزب الله في هذا الخيار. استراتيجية الاستيعاب هنا أكثر فائدة بكثير من استراتيجية المواجهة أو التجاهل.