كما أبواب الخارج موصدة، كذلك أبواب الداخل، على أزمة العلاقات اللبنانية – الخليجية. لم يعد معلوماً ما يجب ان يقدمه لبنان كي تتوقف كرة الاجراءات العقابية عن تدحرجها، من غير ان يكون مؤكداً الحدّ الذي يمكن ان تصل اليه
الاعتقاد السائد في أوساط المسؤولين اللبنانيين المعنيين أن توقيت انفجار الازمة اللبنانية – الخليجية يتقدّم على ذريعتها المعلنة، وهي مواقف وزير الاعلام جورج قرداحي. الحل بات يتجاوزه استقال ام لم يستقل. توقيت الغضب السعودي ومجاراة دول مجلس التعاون الخليجي، هو المهم في ما يجري في علاقات لبنان بأربع من دوله الست، بعدما آثرت قطر وعُمان عدم الانخراط في المواجهة.
مع حسبان تداعيات التصلّب السعودي، ومضيه الى النهاية في المواجهة المعلنة مع السلطات اللبنانية الرسمية، وغير المعلنة مع حزب الله، لمس المسؤولون اللبنانيون أكثر من علامة مشجعة وإن خجولة: تواصلت الخارجية اللبنانية مع نظيرتيها القطرية والعمانية اللتين لم تنضما الى العقوبات وحضّتا على الحوار، فيما لم تغالِ الكويت والامارات في اجراءاتهما. سحبت الامارات ديبلوماسييها خوفاً عليهم من احتمال مضايقتهم وأذيتهم او الانتقام منهم من جراء الازمة، بينما لا سفير لها في بيروت، ويقتصر التمثيل الديبلوماسي اللبناني على قنصل في دبي، لم يُطرد كالسفير اللبناني في الرياض. عندما غادر الديبلوماسيون الاماراتيون بيروت، طلبوا اصطحاب أسلحة معهم كانوا يحتفظون بها في السفارة. بسبب تعذّر اجتماع مجلس الوزراء صاحب صلاحية الإذن باخراجها من البلاد، أُعطي هؤلاء إذناً خاصاً. لا سفير للبنان في البحرين التي لا سفير لها في لبنان.
بيد ان ذلك لا يخفي المعضلة الكأداء، وهي الانهيار غير المسبوق للعلاقات اللبنانية – السعودية.
في حصيلة الجهود والاتصالات الديبلوماسية التي خلص اليها المسؤولون اللبنانيون، اكتملت امامهم اللوحة:
1 – في ما سمعوه، لا احد يطلب استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وليست هي الحل في مشكلة ظاهرها تصريحات وزير، وباطنها الصراع المحموم في اليمن وتسارع الوقائع العسكرية في الأيام الاخيرة. بذلك، لم تعد استقالة حكومة ميقاتي، وليس استقالة وزير الاعلام، كافية لانهاء ازمة تتفاقم يوماً بعد آخر. لم يشجع أي من الدول التي طلب لبنان وساطتها لدى الرياض على استقالة ميقاتي، ووجدوا في اي خطوة من هذا القبيل وضع لبنان على طريق المجهول، بينما المطلوب ايجاد حل لمشكلة اخرى مستجدّة. النصيحة الدولية لميقاتي تجنّب الاستقالة اياً تكن وطأة التدهور في علاقات لبنان بدول الخليج.
2 – أبلغ الاميركيون المسؤولين اللبنانيين اخفاقهم في اقناع السعوديين بوقف اجراءاتهم ضد لبنان. الا انهم نصحوا في مطلع الازمة باستقالة قرداحي كمخرج مقبول. ما سمعه ديبلوماسيون لبنانيون من السفير السعودي وليد البخاري، في الساعات التالية لاندلاع السجال حيال تصريحات وزير الاعلام، ان بيان اعتذار وقتذاك كان كافياً لطيّ الصفحة. بيد ان توالي المواقف المتشددة قاد الى القطيعة.
3 – لم يعد في الامكان توقّع استقالة قرداحي من منصبه في ضوء دعم يحظى به من حزب الله الذي يصرّ على بقائه في حكومة ميقاتي. يطلب الحزب ثمن تنحي الوزير ضمانات تنهي الأزمة كلياً بكل تداعياتها واجراءاتها اللاحقة، فيما الموقف المعاكس – وهو الاصل في النزاع – رأس حزب الله لا رأس حليفه الوزير.
لا استقالة لقرداحي ولا اقالة بلا موافقة الثنائي الشيعي
أرسل حزب الله اكثر من اشارة سلبية. أولها رفضه المشاركة في الخلية الوزارية التي ناط بها ميقاتي معالجة الازمة اللبنانية – الخليجية. رفض وزير الحزب عباس الحاج حسن سلفاً الانضمام اليها. اعتذر بعدما كان وافق وزير حركة امل محمد وسام مرتضى. لحق به الوزير الآخر لحركة أمل يوسف خليل الذي وافق، ثم شارك في اجتماع الخلية السبت طالباً عدم ظهوره في الصورة، ثم انسحب بعد دقائق من الاجتماع ولم يعد. بذلك امتنع الثنائي الشيعي عن المشاركة في اللجنة بصفتها مرجعية المعالجة لغياب ميقاتي خارج البلاد، ما اضطرها الى حلّ نفسها بنفسها لعجزها عن ايجاد حل، لا يكون وزراء الثنائي جزءاً منه. من ثم اتت اشارة سلبية ثانية رافقت اجتماع الخلية السبت، عندما خابر وزراؤها الستة المجتمعون زميلهم وزير الاعلام، متمنّين عليه الاستقالة كمخرج للازمة. بداية ابدى استعداده، بيد انه طلب استمزاج رأي حلفائه وأصدقائه. أوحى ذلك بانفراج قبل ذهابه مساء الى بكركي، سرعان ما تكشّف العكس. اما الاشارة السلبية الثالثة، غير المحتملة سلفاً، فهي اقالة وزير الاعلام. بسبب امساك الثنائي الشيعي وحليفيه وزيري سليمان فرنجيه وسائر حلفائه في الحكومة بالثلث+1، تتعذر اقالة قرداحي بثلثي مجلس الوزراء.
مغزى الاشارات السلبية هذه اصرار حزب الله على المضي في المواجهة مع الرياض، من غير تمكين حكومة ميقاتي بحد أدنى من المناورة. من دون موافقته المسبقة القاطعة، من المستبعد تصوّر موافقة رئيسي الجمهورية والحكومة على اخراج قرداحي من الحكومة.
4 – ليست هذه اولى المشكلات يواجهها لبنان مع المملكة، كما مع اي دولة اخرى. بيد انه يشكو من تلقيه منها تجاهلاً دائماً متعمداً، سواء في المساعدة على حل المشكلات تلك بتعاون ثنائي لوقف تهريب المخدرات، او في اهمال سفيرها السلطات اللبنانية ومقاطعته زيارة المسؤولين والتشاور معهم. بعد أزمة مشابهة تسبب بها الوزير السابق للخارجية شربل وهبه وانتهت الى تنحيه بعدما بالغ في احراج لبنان، لم يشعر المسؤولون اللبنانيون برضى الرياض، ولا بتلقفها المناسبة لاستعادة التواصل، فظلّ مقطوعاً.
في الأزمة الاخيرة لم يعثروا على تفسير لامتناع السفير عن زيارة رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الخارجية للاحتجاج على موقف الوزير، مكتفياً بمخابرة مستشار رئاسي، من ثم زيارته رئيس حزب القوات اللبنانية. بضعة مؤشرات اخرى لمسها المسؤولون في الاشهر الاخيرة عكست اصرار المملكة على مقاطعة السلطات اللبنانية واغفالها، دونما الانقطاع في المقابل عن التواصل مع قيادات ومرجعيات دينية كانت تحمل اكثر من تفسير.
5 – لم يعد بين المسؤولين اللبنانيين مَن يسعه التوسط لحل المشكلة او التحدث مع السعوديين، اللهم الا اذا أضحى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع رجلها الموثوق به والوفي، يخلف في المكانة لديها حسين العويني في الاربعينات والخمسينات، وصائب سلام وكمال جنبلاط في الستينات والسبعينات، ورفيق الحريري في الثمانينات والتسعينات، ثم خلفه سعد الحريري قبل ان يمسي مطلوباً لديها. رئيس الجمهورية حليف عدوّهم الاول والتواصل معه معدوم، رئيس الحكومة لم يتلقَ بعد تهنئة السفير السعودي بترؤسه الحكومة الجديدة ويسعى الى توسيط دول غربية في مشكلة بلدين عربيين.