Site icon IMLebanon

ثقافة الموت في لبنان  

الموت هو الثقافة الحقيقية للشعب اللبناني. وربما الموت هو القيمة الوحيدة المشتركة بين جميع اللبنانيين من كلّ الطوائف والمناطق، فالجميع إستخدموا الموت والقتل كأداة لتحقيق أهدافهم وتطلّعاتهم وطموحهم، أو ما يسمّونه الدفاع عن وجودهم أو حقوقهم. وقلّما تسمع لبنانيّاً يتحدّث عن لبناني آخر كيف عاش، لكنّه يتفنّن في الإجابة عندما يكون السؤال عن الآخر كيف مات. ومن شدّة سعادتهم بالموت فإنّهم يتبادلون التهاني والقبلات ويتناسون الخلافات ويزورون ويواسون بعضهم بودّ واحترام، لأنّ المقدّس عند اللبنانيين هو الموت وليس الحياة.

يكره اللبنانيّون النجاح ويتنافسون في تشويه الإنجازات بإسنادها إلى هذه الدولة أو تلك أو الى قوّة خفية. القاعدة عند الجماعات اللبنانية هي أنّه لا يحقّ للأفراد النجاح لأنّ في ذلك تجديداً لإرادة الحياة عند المجتمعات، وأن نجاح الأفراد يعتبر تحدياً لثقافة الموت الأصيلة لدى كلّ اللبنانيّين على حدّ سواء. 

هناك قامات كبيرة ومميّزة لها في وجدان الناس مكانة أكبر مما تعتقد في نفسها، إلاّ أنّها تقتل محبّيها لتأكيد عظمتها وفرادتها. فلكي تكون عظيماً في لبنان عليك قتل المودة في داخلك لأنّها تمنعك من كره الآخرين أو قتلهم، واللبنانيّون عموماً يحبّون أن يكونوا عظماء. 

هناك الكثير من القتلى الأحياء في وعيي ،حتى أصبحت ذاكرتي مقبرة كبيرة لكبار وصغار لايزالون على قيد الحياة، لأنّ هؤلاء لا يحقّقون ذاتهم إلاّ بموت الآخرين وكراهيّتهم فيزرعون الريبة والقلق في نفوس محبّيهم، وهم غير قادرين على الأخذ بأيدي أطفال لبنان نحو السكينة والأمان.

الكثيرون ممّن نشاهدهم أو نسمعهم ليل نهار ليسوا سوى مقابر متحرّكة تتكوّن أبجديّتهم من الحروف الأولى لجمهور ضحاياهم، وعلى شفافهم دماء بيضاء تتمنى الموت لكلّ الأحياء من صنّاع الحياة. عرفتُ الكثير من القتل، وشاهدت الكثير من الجرائم وسيلاً كبيراً من الدماء الحمراء، إبان حروب البسطاءالذين قتلوا بعضهم ثم قتلوا أنفسهم بإسم المقدسات والقناعات. رغم ذلك فهم أكثر براءة من سفّاحي الدماء البيضاء الذين يقتلون الناس بتعقيد أبسط أمور الحياة لتأكيد تمايزهم وعظمتهم. هؤلاء يحتاجون كلّ يوم وربما كلّ دقيقة الى موت جديد كي يبقوا على قيد الحياة.

لقد قتلوا كلّ المعاني والقيم الجامعة في لبنان. فمات الوطن والمواطنية والإيمان، وماتت السياسة والإعلام واحترام الذات، وماتت الرئاسة والحكومة والبرلمان والقضاء والدبلوماسية، وماتت الليرة والإقتصاد، ومات الهواء والماء والأمن والمدارس والمستشفيات ودور العبادة والجامعات. مات العقل والمشاعر والسؤال، ومات الفرح والمسرح والغناء والنجاح والوفاء، وماتت المهنية والمصداقية والخجل والذوق العام، ومات معنى القيادة والقضايا والانتماء، ومات الخلق والابداع وكرامة الفرد الانسان.

لقد جعلوا من الموت ثقافة وهوية وأباحوا قتل كلّ من يواجه ثقافة الموت بثقافة الحياة، وأصبحنا نعيش في زمن الموتى الأحياء الذين سالت دماؤهم الحمراء والأحياء الموتى من سفّاحي الدماء البيضاء.