لا يُمكن أن تستمرّ عرقلة تشكيل الحكومة إلى ما لا نهاية، هذا بديهيّ. من الصعب التعامل مع العرقلة الحالية، بالمعادلة التي يطرحها “حزب الله” لتوزير أحد حلفائه من مجموعة “سنّة 8 آذار” على أنها مشابهة للمشكلات السابقة التي اعترضت مسار التشكيل، هذا أقرب إلى أن يكون بديهياً أيضاً. من الصعب في الوقت نفسه استسهال سيناريو تدحرُج الأمور بشكل دراماتيكي إلى حيث التوتر الشامل بين الفرقاء، لكن هذا ليس بالأمر البديهيّ.
الضغط من موقع الظرف الحرج اقتصادياً ومالياً لإيجاد ثغرة في جدار التعطيل والعرقلة غير قليل، ولا بدّ من أخذه بالحسبان، والاستقرار الهشّ الذي احتفظ به البلد في مقابل انفجار الوضع في عدد من بلدان المنطقة يدخل بعين الحسبان أيضاً. كذلك، ليس ثمة حالياً مؤشر إلى أن العقوبات الاميركية على “حزب الله” ستعني انقلاباً شاملاً في النظرة الخارجية إلى أوضاعنا الداخلية. كل هذا يمكنه أن يؤطّر بالنتيجة مساعي الحلحلة “الترقيعية” المحلية، لتجاوز العرقلة الحكومية في نهاية المطاف، ولو بعد فترة طويلة من التيه السياسي بصدد عناوين هذه العرقلة المختلفة.
بَيْدَ أن الحلول “الترقيعية” من الآن فصاعداً باتت لها كلفة باهظة أكثر من السابق. ذلك أن العرقلة الحالية في الموضوع الحكومي، المرتبطة بشلّ أكثرية سياسية في طائفتها مسار التشكيل، لأجل تمثيل أقلّية سياسية مستجمعة بين نواب طائفة موازية، يتضمن نقلة نوعية في موضوع الطائفية. حتى هذا الوقت، كان يجري التنازع بين القوى في كل طائفة حول الحيثية التمثيلية، والتحالف بين أكثرية في طائفة وأكثرية أو أقلّية في طائفة أخرى، وكانت تجري المجادلة حول درجة التمثيل، والحصة التي تصلُح لمراعاة هذا التمثيل. وفي خريف 2006 عندما استقال وزراء “حزب الله” وحركة “أمل” من الحكومة اعتبروها غير ميثاقية لأنها لم تعُد تحوي أكثرية الوزراء من الطائفة الشيعية، كان هذا سابقة في حين، كون الموضوع الميثاقي المفترض أنه يتعلّق بالتفاهمات الكيانية الاساسية التي يقوم عليها البلد، اختزل في حيّزه التمثيلي، ليس لتمثل كل الطوائف، بل لتمثل من يمثّلها على وجه أكثري. في المقابل، اعتبر الفريق نفسه أنه في غنى عن التغطية الميثاقية لموضوعات لا يمكن أن تكون في أي بلد إلا ميثاقية، مثل القضايا السيادية، واحتكار الدولة منظومة العنف الشرعي، وسيادة القانون، وقرار الحرب والسلم. قلب مفهوم الميثاق رأساً على عقب: حيث يفترض أن يتبلور تفاهم ميثاقي، جرى التصرّف بفئوية وأحادية، وحيث هناك نصوص دستورية، جرى تعطيلها بالذرائع “الميثاقية”.
انتظر البلد اثني عشر عاماً بعد ذلك، ليدخل في “خريف ميثاقي عبثي” جديد: نفس الفريق الذي اعتبر خروجه من الحكومة يجعلها غير ميثاقية في خريف 2006، كون أكثرية وزراء طائفته تنسحب بانسحابه، طور ذرائع ليخلص الى أن الحكومة المعتزم تشكيلها في الوقت الحالي لن تكون ميثاقية إن لم يتمثّل كل حلفائه فيها، بمن فيهم الأقلّي سياسياً ضمن طائفته، وإن لم يحصل ذلك تكون الحكومة غير ميثاقية، ليس مباشرة لان الأقلية هذه غير ممثلة فيها، بل لان اكثرية طائفية تتضامن عضوياً مع هذه الاقلية. استيعاب معاني وتداعيات هذه السابقة ما زال حتى اللحظة، في بداياته.
فحتى الآن يجري التركيز على تداعيين فقط لهذه السابقة: اتضاح الى أين يمكن أن يدفع اختلال موازين القوى، وابتعادها عن أي توازن، الأمور في البلد، وبالنسبة الى مؤسساته. وردّة الفعل العكسية، الانكماشية، بإزاء هذا الطور الجديد من المعادلات الطائفية والمذهبية. الشعور بأن فئة تطرح نفسها كوصي على فئة أخرى، من خلال الوصاية الحمائية لأقلّية الفئة الأخرى، والوصاية المرغوب بسطها بإزاء كامل الفئة الأخرى، هو شعور يفترض ان يكون مُقلقاً لكل من يهمه استقرار الامور في البلد على شيء من الحلحلة والتهدئة والتفتيش عن السبل الابتدائية لإعادة التحاور.
لكن هناك تداعيات أخطر، وغير منظورة بعد، وستظهر سواء نجحت مساعي تذليل العقدة الحالية أو لا. التمغيط الذي حصل لفكرة الميثاق، اختزاله حيناً، توسيعه الزائد حيناً آخر، إحلاله بدل نصوص دستورية صريحة، وإبعاده عن المقام الذي يتوجب ان يتبلور في إطاره الميثاق، كل هذا يؤثّر بشكل سلبي للغاية على كل إطار معياري في البلد. تشكيل الحكومة، من بعد طول العرقلة، أسهل اليوم، من إعادة إنتاج معايير لإدارة اللعبة المؤسساتية والاختلاف السياسي، بالحدّ الأدنى، في لبنان.