تلاحق لعنة لبنان كلّ مَن عمل من أجل تدميره. ما حلّ بالنظام السوري دليل على أن كلّ مَن تسبب بالأذى للبنان لن ينجو من اللعنة.
مننذ ما قبل الثالث عشر من نيسان ، استُخدم السلاح غير الشرعي للانتهاء من لبنان. كان السلاح فلسطينياً في البداية وتفرّع عنه سلاح غير شرعي حملته الميليشيات الطائفية اللبنانية. صار السلاح الميليشيوي إيرانياً الآن.
ما يربط بين فصول الحرب اللبنانية المستمرّة أمران. الأوّل السلاح غير الشرعي الذي عمل على تحطيم مؤسسات الدولة اللبنانية وانتهاك سيادتها يومياً. الأمر الآخر، شعور كل طائفة من الطوائف اللبنانية أنّ في استطاعتها الهيمنة على الطوائف الأخرى… في غياب الحدّ الأدنى من الوعي الوطني. هذا الوعي الوطني الذي يظهر في المناسبات، ثم لا يلبث أن يدخل في سبات عميق.
بالنسبة إلى السلاح غير الشرعي، هناك مسؤولية كبرى تقع على العرب عموماً وعلى النظام السوري الذي أسّس له حافظ الأسد منذ العام، أي منذ استولى الضباط العلويون على السلطة مستخدمين لافتة كبيرة تنطوي على شعارات طنّانة اسمها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم يجلب على المنطقة سوى الكوارث، بما في ذلك كارثة حرب الأيام الستة في العام .
فرض العرب على لبنان ما لا يستطيع تحمّله عندما جعلوه يوقّع اتفاق القاهرة في العام . كان جمال عبدالناصر لا يزال حيّاً. أراد العرب التكفير عن ذنب إقفال الجبهات المصرية والسورية، فألقوا كلّ الثقل الفلسطيني على لبنان بعدما فشلوا في إلقائه على الأردن.
غرق الفلسطينيون في وحول لبنان. ساهموا في تدمير لبنان ولم يحرّروا شبراً من فلسطين. جعلهم حافظ الأسد، الذي وفّر لهم كلّ ما يريدون من سلاح، منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة وعندما كان لا يزال وزيراً للدفاع، كلّ ما هو مطلوب كي يأتي يوم يطلب منه الأميركيون الدخول عسكرياً إلى البلد الجار. حصل ذلك حين دعاه هنري كيسينجر، بالتفاهم مع إسرائيل إلى «وضع اليد على مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية«. دخل هؤلاء في مواجهات مسلحة مع ميليشيات الأحزاب المسيحية التي كانت تحصل بدورها على إسلحة عن طريق النظام السوري.
كانت اللعبة مكشوفة في كلّ وقت، منذ ما قبل الثالث عشر من نيسان من العام . كان حافظ الأسد يريد السيطرة على لبنان تحت شعار «شعب واحد في بلدين« وعلى القرار الفلسطيني تحت شعار «إنّ القرار الفلسطيني المستقلّ بدعة«.
كان دخول ياسر عرفات اللعبة خطأً تاريخياً، عاد بالويلات على لبنان وعلى القضية الفلسطينية في الوقت ذاته.
كان قبول عدد لا بأس به من الزعماء المسلمين في لبنان، خصوصاً بعض الزعماء السنّة، الرضوخ للمطالب الفلسطينية بمثابة جريمة في مستوى جريمة عدد لا بأس به من الزعماء المسيحيين الذين قرروا الدخول في مواجهة مسلّحة مع الفلسطينيين ومع تنظيمات تابعة لأنظمة عربية، بعضها عراقي وبعضها ليبي، من دون شريك مسلم.
كانت هناك تجاوزات فلسطينية لا يمكن السكوت عنها. لكنّ من الخطأ تولي المسيحيين وحدهم التصدي لهذه التجاوزات من دون حسابات سياسية دقيقة تأخذ في الاعتبار حاجة غير نظام عربي للمتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم.
هذا ما كان يريده الأسد الأب وهذا ما سعى إليه دائماً، من دون نجاح يذكر، في سياق مخطط مدروس يصبّ في تشكيل حلف الأقليّات. استعان بالفلسطينيين لضرب الوجود المسيحي ومحاولة تحويل المسيحيين اللبنانيين نسخة عن مسيحيي سوريا.
بعد أربعين عاماً على حرب لبنان، التي تخلّلها اجتياح اسرائيلي للبلد، وسعي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي فيه، أخذت هذه الحرب شكلاً آخر. حصل ذلك بعد خلافة بشار الأسد لوالده واعتقاده أنّ في استطاعته الهيمنة على لبنان عن طريق الحلف الذي أقامه مع «حزب الله« والذي كان من نتائجه التخلّص من الرئيس رفيق الحريري وما كان يمثّله.
دفع رفيق الحريري ثمن الفشل السوري في جعل الوصاية على لبنان، وصاية إلى الأبد. دفع ثمن إعادته الحياة إلى بيروت على طريق إعادة الحياة إلى كلّ لبنان.
نجح «حزب الله«، بصفة كونه لواء في «الحرس الثوري« الإيراني، في إبقاء السلاح غير الشرعي سلاحاً يهدّد كلّ لبناني. أكثر من ذلك، مكّن الوصاية الإيرانية من الحلول مكان الوصاية السورية. أخطر ما في الأمر أنّه يظهر أنّ قسماً كبيراً من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، باتوا رهينة لديه، وكأنّهم لم يتعلّموا شيئاً مما مرت فيه الطوائف الأخرى، بدءاً بالمسيحيين والسنّة وانتهاء بالدروز… وكأن مأساة لبنان لا تزال في بدايتها، كما يمكن أن تتكرّر.
كانت الحرب اللبنانية، منذ البداية، حرباً إقليمية. لم يخطئ مَن قال في حينه إنّها حرب بين اللبنانيين، كما هي حرب الآخرين على أرض لبنان. كانت الحاجة إلى أربعين عاماً ليتفرّج اللبناني من موقع مختلف على فشل رهان النظام السوري على تصدير أزماته وأمراضه إلى الداخل اللبناني. الأكيد أن هذا ليس من باب الشماتة، بمقدار ما أنّه درس في التاريخ كلّف لبنان واللبنانيين، وما زال يكلّفهم، الكثير الكثير…