بعد اتفاقية سايكس بيكو، كثرٌ هم الذين حاولوا ابتكار شرق أوسط جديد، بدءاً بإسحاق رابين الذي صافح ياسر عرفات في كامب ديفيد، فكان أن لاقى حتفه على يَد متطرّف إسرائيلي يميني لم يرقَ له شرق أوسط مسالم (مع أعداء الله)، والمخالفين لوعده للشعب المختار، بحسب معتقدات اليمين المتطرّف.
أطلقت كوندوليزا رايس شرق أوسطها مدعّماً بوهج المحافظين الجدُد وحُطام المركز التجاري العالمي في 11 أيلول 2001، لينقلب المشهد عليها ويتوّجه الشرق الأوسط إلى مساحة متعدّدة الأقطاب، على خلاف ما كانت عليه بعد سقوط جدار برلين وغياب الاتحاد السوفياتي، المنافس الأول للولايات المتحدة.
عند اندلاع شعلة الربيع العربي، انقضّ المحلّلون والخبراء ومن ورائهم الأميركيّون، يصفون مجريات الأحداث بالانقلاب الجيوستراتيجي وشروق شمس شرق أوسط جديد ديموقراطي من خلال إسلاميين مع ربطة عنق تحمل توقيع العدالة والتنمية التركية. وحطّت الطائرات الروسية قرب المياه الدافئة في سوريا لينقلب المشهد رأساً على عقب، ويبقى الشرق الأوسط على قِدَمِه، سوريا عادت للأسد ومصر عادت للجيش وإيران توغّلت في هلال يمتّد من طهران إلى بيروت.
عام 2023، وقف نتنياهو من على منصة الأمم المتحدة ليعلن شرق أوسط جديد إبراهاميّ، مع خط تجاري يمتدّ من الهند إلى حيفا، ويعلن السلام المستثني لمحور الممانعة، ليَلحق به مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان ويعلن أنّ الشرق الأوسط سيكون أكثر أماناً واستقراراً، وبعد أيام قليلة اندلعت أحداث 7 أكتوبر وتبخّر المشروع الكبير.
يعود الحديث اليوم في إسرائيل عن شرق أوسط جديد بعد اغتيال الشهيد السيّد حسن نصر الله. وفي معاينة تاريخية للتوغّلات البرية، التي تُعتبَر في المفهوم الجيوسياسي ممرّاً إلزامياً لأيّ تغيير سياسي، نستخلص عبراً أساسية هي أنّ إسرائيل عجزت على مَرّ السنين عن تحقيق ما يُعرف باليوم التالي لأي من حروبها البرية باستثناء حرب 1967 التي ثبّتت حدودها البرية واستعانت بالديبلوماسية المكوكية الأميركية لتحقيق – بعد حرب 1973 – فَكّ الارتباط مع سوريا عام 1974 واتفاقية سلام كامب ديفيد مع مصر عام 1978. يومها كان زمن الحروب مع الجيوش النظامية لينقلب مشهد اليوم التالي مع ظهور حركات المقاومة في المنطقة.
بعد اجتياح عام 1078، أرادت إسرائيل إبعاد الكاتيوشيا إلى ما بعد الليطاني، فكان اليوم التالي معاكساً لتوقعاتها ما اضطرّها إلى اجتياح لبنان عام 1982، مهندسةً من خلاله ليوم تالٍ عنوانه السلام في الجليل واتفاقية سلام مع الحكومة اللبنانية، فكانت النتيجة أن ألغى المجلس النيابي اتفاقية 17 أيار وتأسّس «حزب الله»، ليُحوِّل المعادلة في الجنوب إلى مقاومة نارية استمرّت لغاية عام 2000.
لم يتحقّق شرق أوسط كامب ديفيد بسبب تغيُّب لبنان عن التوقيع، لنستفيق على معادلة جديدة مع الانسحاب الإسرائيلي مرّة جديدة، من دون إدراكها أنّ اليوم التالي لن يكون بهندسة إيهود باراك الذي أراد إلغاء الذريعة لامتلاك سلاح مقاوم، فكانت قضية مزارع شبعا وكفرشوبا وقوداً جديدة لاستمرارية «حزب الله» بتقويض استقرار الإسرائيليِّين على الحدود الشمالية.
كما في الجنوب اللبناني كذلك الأمر في غزة، لا يوم تالياً مدروساً ومُخطّطاً له منذ تأسيس حركة «حماس» في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي عام 1987، مروراً باغتيال مؤسّسها أحمد ياسين عام 2004، وصولاً إلى الانسحاب عام 2005، ليجد الإسرائيلي نفسه أمام حركة منتصرة في الانتخابات التشريعية ومتمكّنة من تطوير نفسها وقدراتها بمساعدة إيران وصولاً إلى صدمة 7 أكتوبر.
مرّة جديدة عام 2006 لم يؤمّن القرار 1701 استقرار اليوم التالي لإسرائيل، فاستمّر «حزب الله» بتطوير قدراته في الجغرافيا الملحوظة في نصّ الاتفاق.
إنّه الشرق الأوسط القديم والمُفترِس لكل العابثين به، هو الذي شهد على تغييرات ومداخلات القوى المتحكّمة بالنظام العالمي. إنّها لعبة تعديل موازين القوى وإعادة ترسيم النفوذ بانتظار الإدارة الأميركية الجديدة، لترسم بعد انتخابها الخارطة السياسية بينها وإيران، على وقع الميدان المُلتهِب ونتائج المعركة في الجنوب اللبناني والمنازلة العسكرية بين إيران وإسرائيل، وليس على استنتاجات التقارير الإعلامية المفبركة في مطابخ الحروب النفسية.