… وأخيراً، وبعد طول اشكالات ومعاناة وانتظار، أقر مجلس النواب وفي جلسة خاصة بعد ظهر يوم أمس قانون الانتخابات النيابية الجديد الذي وصف بأنه «أفضل الممكن» و»قانون اللحظات الأخيرة..» و»قانون التسوية» التي بمجرد التسليم بها، يعني ان الجميع قدموا «تنازلات» كما حققوا مكاسب..
في قناعة عديدين من المتابعين عن كثب والذين رافقوا المشاورات في الكواليس وخلف الجدران ان القانون الجديد شكل أحد أبرز أوجه «الصفقات السياسية» التي قد تنسحب على العديد من الملفات السياسية وغير السياسية.. وقد لا يكون من المبالغة القول ان مرحلة ما قبل ولادة الاتفاق على القانون انتهت وقد أصبحت في «ذمة التاريخ» على ما قال رئيس الحكومة سعد الحريري..
ليس من شك في أن القانون الجديد لم يكن المرتجى الذي كان يتطلع اليه اللبنانيون، وقد حمل الكثير من «الشوائب» وكرّس ما كان سبباً في كل ما تعرض له لبنان على فترات من صراعات و»حروب دموية» على خلفيات طائفية، وانقسامات تستعر يوما بعد يوم على خلفيات مذهبية تقود الى محوريات اقليمية ليست في مصلحة لبنان ولا في مصلحة اللبنانيين..
لقد كان من الطبيعي جداً ان «تقوم قيامة»، «الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية» العابرة لحدود الطوائف والمذاهب والمناطق، على قانون الانتخابات الجديد.. ولا يختلف اثنان على أن هذا القانون – على رغم اعتماد «النسبية الكاملة» وقد كانت مطلباً تاريخيا لهذه الاحزاب، إلا ان التقسيمات الادارية الخمس عشرة أفرغت هذه النسبية من جوهرها – وهو جاء نتاج توافقات القوى السياسية القابضة على ادارة البلد، والتي تختلف على العديد من المسائل.. فهو – أي هذا القانون – ضرب في الصميم أي بعد اصلاحي حقيقي، وجاء نسخة عن «قانون الستين» الذي أجمع الافرقاء كافة، أقله في الظاهر، على رفضه، مكرساً تقسيم الدوائر الانتخابية على أسس طائفية ومذهبية، فافرغ النسبية من جوهرها، وقدم نسبية مشوهة، تعمل على تكريس وحماية النظام الطائفي والمذهبي من خلال التقسيمات وحصر «الصوت التفضيلي» على مستوى القضاء وتقسيم الدوائر الذي عزز الانقسامات العمودية ولم يراع مبادئ الوحدة الوطنية بحدودها الدنيا.. وقد قطع الطريق أمام الاحزاب والقوى والتيارات غير الطائفية والموجودة على الاراضي اللبنانية كافة، حيث نادراً ما تجد قرية او بلدة او مدينة لا يكون لهذه الاحزاب والقوى حضور لافت فيها، لكنه مع هذا القانون لا قيمة لها أمام التكتلات الطائفية والمذهبية.. خصوصاً وان هذا القانون لم يتضمن أي بند من الاصلاحات الوطنية المطلوبة، كخفض سن الاقتراع، او «الكوتا النسائية» و»تحديد سقف الانفاق الانتخابي» و«فصل النيابة عن الوزارة».. وما الى ذلك، ومن أبرزها ان يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة..
ثارت ثائرة «الاحزاب الوطنية والتقدمية والقومية» ودعا البعض الى حشد شعبي في محيط مجلس النواب تعبيراً عن عدم الرضى، بل الرفض لهذه الصيغة – أقل ما يقال في هذا التحرك والمواقف «صح النوم».. والألم يزداد، ان هذه الاحزاب، خصوصاً الرئيسية منها، والتي قدمت للبنان مئات، بل آلاف الشهداء دفاعاً عن وحدته ووجوده ومقاومة الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.. والتصدي للخيارات الغربية.. لكنها مع صفقة «الطائف» وبقرار خارجي جائر استبعدت هذه الاحزاب عن أي دور او حق، وأكرهت على تسليم سلاحها المقاوم، لتنتقل المقاومة من وطنية، عابرة للطوائف والمذاهب، الى مقاومة محض مذهبية تحظى بدعم اقليمي قوي ومؤثر، وعلى جميع الأصعدة.. وتكون لها الكلمة المؤثرة في الداخل، كما ويكون لها «قرار الحرب والسلم».
«الغلطة التاريخية»، بل «الجريمة التاريخية»، كانت في قرار حل «الحركة الوطنية اللبنانية» التي قدمت مشروعاً اصلاحياً وطنياً بالغ الأهمية شاملاً، اقتصادياً، واجتماعياً وانمائياً وأمنياً وثقافياً وتربوياً.. ومن أسف، ان قيادة الحركة الوطنية وقتذاك، والممثلة بالنائب وليد كمال جنبلاط، كانت في طليعة من أقدم على ضرب هذه الحركة، التي كان الراحل الكبير كمال جنبلاط، واحداً من أبرز شهدائها.. ومنذ ذلك التاريخ، تحول «الحزب التقدمي الاشتراكي» الى حزب مذهبي، عائلي، رأسمالي فردي.. وتشتتت «الحركة الوطنية» التي عصفت باحزابها ومكوناتها خلافات لم تنتهِ بعد، ولم تعد هذه الاحزاب على مستوى التحديات التي تواجه لبنان والمنطقة، وانقطعت عن التواصل مع بعضها البعض، وانشغلت بأزماتها الداخلية وغابت عن أي دور في «المجتمع اللبناني» على رغم الأزمات المتزايدة والمتعددة.. كما وغابت عن الشعب، وعن المدارس والجامعات والنقابات، وغرقت في وحول خلافاتها الداخلية..
ليس من شك في ان الاستسلام لهذا الواقع يعني تسليم لبنان للقوى والتيارات والاحزاب المذهبية والطائفية.. التي أثبتت – وهي التي تحظى بدعم خارجي متعدد الأهواء والمصالح أنها «قنابل موقوتة» في جسد البلد.. وقد لا يكون من المغالاة في شيء، ان لبنان في بداية الطريق، والعبرة في ما سيكون من نتائج، في الانتخابات النيابية في ايار المقبل.. وخير دليل على ذلك هو تقاطع مصالح هذه القوى السياسية عند نقطة جوهرية تمثلت بارجاء الاستحقاق التشريعي الى الحد الأقصى الممكن، الذي شكل أحد دوافع اقرار القانون الملغوم، والانظار تتجه الى موعد الانتخابات المقبلة، و»فرز الخيط الابيض من الخيط الاسود»، وكيف ستكون التحالفات وكيف ستكون العدة المطلوبة لهذا الاستحقاق.. وما سيكون عليه موقف هذه الاحزاب والقوى «الوطنية» و«التقدمية»، وهل ستستسلم للصفاء الطائفي والمذهبي، وتبصم على «النسبية المشوهة».. وتكريس القيد الطائفي من خلال حصر الصوت التفضيلي على مستوى القضاء.. وتسلم نفسها وتحرم من التمثيل وخوض الانتخابات؟!