كثيرةٌ هي الأيام في هذا الشهر الأول من العام ٢٠١٥ التي يصحّ القول فيها أنّ لها ما بعدها.. فمنذ اليوم الأول من هذا الشهر شهدنا التّصويت في مجلس الأمن على القرار العربي الفرنسي بالإعتراف بالدّولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال.. ورغم أنّ القرار لم يحصل على الأصوات الكافية إلاّ أنّه أدّى إلى قبول فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية وأصبحت اسرائيل متّهمة وللمرة الأولى.. ثم جاءت عملية باريس الإرهابية في السابع من هذا الشهر أيضاً وكان لها ما بعدها ولا يزال.. واستمر انخفاض سعر برميل النفط إلى أدنى المستويات منذ سنوات مع تأثير ذلك على دول الحرب والسلم في المنطقة والعالم.. ثم جاءت عملية الإغتيال الإسرائيلية في القنيطرة السورية لمسؤولين في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله.. وذلك حدث كبير في المكان والزمان وأيضاً سيكون له ما بعده بأوجه مختلفة.. ثم تلته تطورات اليمن وما أحدثته سيطرة الحوثيين المسلحة على الحياة السياسية اليمنية واستقالة رئيسيْ الجمهورية والوزراء.. وهذا أيضاً سيكون له ما بعده بأوجه كثيرة.. بالإضافة إلى القرارات والإجتماعات والتقارير العربية والدولية في هذا الشهر والتي سيكون لها ما بعدها أيضاً وأيضاً..
جاء الخبر الحدث بوفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز وقد يكون هذا الخبر منفرداً يتجاوز كلّ تلك الأحداث.. لأنّ قيادة الإستقرار والإعتدال في المنطقة العربية والإسلامية ليس أمراً سهل المنال.. لأنّ الثّقة بالقيادة لا تأتي صدفة أو تلقائية بل بعد تجارب وإنجازات متراكمة ليكون للاستقرار والاعتدال قيادة.. وهذا ما حقّقه بامتياز الراحل الكبير.. في حين أنّ قيادة الفوضى وعدم الإستقرار لا تحتاج سوى إلى القليل من المال مع القليل من اليأس والغباء قادرة على تدمير دول وممالك.. والتاريخ مليء بالشواهد..
كان العرب والمسلمون المعتدلون والعاملون على الإستقرار في دولهم ومجتمعاتهم يثقون بقيادة خادم الحرمين الشريفين.. ويعرف ذلك أصدقاؤه كما خصومه.. فلقد كان رحمه الله ملك من يستطيع أن يقلب الصفحات السوداء ويفتح الصفحات البيضاء ويعيد وصل ما انقطع أكثر من مرة مع الخصوم والأصدقاء.. مما ساعد على صيانة العمل العربي المشترك والوحدة الخليجية..
أعتقد بأنّ كلّ المكونات السياسية اللبنانية الوطنية والمتسبّبة بالفشل الوطني في كلّ مجال هي الخاسر الأكبر بغياب خادم الحرمين الشريفين بالإستقرار والإعتدال..لأنّ اللبنانيين تعوّدوا منذ زمن بعيد على أن يدفع الآخرون عنهم ثمن عبثهم وطائفيتهم التي لم تجلب لهم سوى الخراب والدمار منذ العام ٥٨ حتى الآن.. ولقد دفع الراحل الكبير فواتير باهظة عن اللبنانيين.. سياسياً ومادياً وإنسانياً.. حتى ساعة غيابه االكبير.. وكان آخرها المليارات الأربعة لإعادة بناء وتسليح الجيش اللبناني والقوى الأمنية مع إحتضان تام لعذابات النازحين السوريين في لبنان..
العالمية اليوم تفتقد أحد آخر أعمدتها.. إذ يقود العالم هذه الأيام مجموعة من الهواة ومعظمهم مُنتَج صناعي غير بشري جاء إلى موقعه بمهارة حملتِه الدعائية الانتخابية المحترِفَة صناعة السياسة والرأي العام.. أي أنّ قيادة العالم الآن هي عملية رقمية خالية من أي مشاعر أو إحساس.. تقوم على الحاجات اليومية للناس.. أي أنّنا أمام عبودية رقمية جديدة في حين كان خادم الحرمين الشريفين إنساناً ويسعى إلى حوار الأديان والمذاهب والثقافات.. لأنّه يؤمن بحقّ الناس في العيش بكرامة وسلام واستقرار.. رحم الله الراحل الكبير الذي خدم الحرمين الشريفين بالأخوة والإعتدال والإستقرار..
ستكون المسؤوليات كبيرة على محور الإعتدال والإستقرار.. محور الدولة العربية المستقلة ذات السيادة الوطنية التنموية الكاملة.. مهما كان حجمها صغيراً أم كبيراً.. ومع الدولة الفلسطينية الكاملة وعاصمتها القدس الشريف وفي مواجهة محور الفوضى والتطرف وعدم الإعتراف بالدولة الوطنية وتفكيك الهويات الوطنية والعربية الجامعة للأديان والأعراق والمذاهب.. فما نشاهده في ليبيا واليمن والعراق وسوريا مأساوي بكلّ الأوجه ولا يهون إلا على المجرم لأنّ المؤمن يعرف الله في رحمته.. لأنّ الله عزّ وجلّ رحمن رحيم.. فليس القتل والهدم والترويع والتهجير من عمل المؤمنين.. وقد بلغت نسبة اللاجئين من العرب والمسلمين ما يزيد على الخمسين بالمئة من مجموع اللاجئين في العالم..
أعان الله قيادات دول الإعتدال والإستقرار العربي وشعوبها على رحيل خادم الحرمين الشريفين بالأخوّة والإعتدال والإستقرار..