Site icon IMLebanon

دولة «الضاحية» ليست لبنان

 

كيف يمكن أن نقرأ ردود الأفعال من سياسيين لبنانيين يتقدمهم رئيس الجمهورية ميشال عون تجاه سياسة الحزم السعودية، ضد دولة «الضاحية الجنوبية»؟ تلك الدولة التي أسهم الفراغ السياسي إلى أن تقود ما تبقى من الدولة اللبنانية للأسف. بالأمس القريب كانت دولة الضاحية تبتلع حتى إرادة الجيش اللبناني بزعم الحرب على الإرهاب، وقبل ذلك اختطفت الإرادة السياسية الخارجية بتجاهل كل التحذيرات والذهاب للقتال في سوريا بجانب قوات نظام الأسد وضد الشعب السوري.

الأمر لا يتصل بمواقف السعودية من حزب الله أو بتجاهل التحذيرات المتكررة لرموز السياسة في لبنان، بمختلف أحزابهم وطوائفهم عن خطورة ما آل إليه الوضع من تمدد مخيف، وتطاول على منطق الدولة والجيش في ظل انشغال العالم بالحرب على تنظيم داعش، ليتجاوز الأمر مسألة الأزمة السورية ويشارك الحزب في تنفيذ المخطط الإيراني في اليمن بالتدريب والتجييش الإعلامي، واستضافة ليس الحوثيين فحسب، فهم جزء من نسيج الامتداد الميليشياوي الذي تقوده إيران من العراق إلى لبنان إلى اليمن؛ بل حتى بعض الصحافيين اليمنيين، في سبيل تسجيل موقف ضد إعادة الشرعية في اليمن، وإيقاف حالة العبث ضد إرادة اليمنيين من قبل تحالف الميليشيا مع النظام المخلوع، ثم ابتلاع الحالة السياسية بالكامل، واللعب على مظلومية آثار الحرب، مع تجاهل مسببات بقائها ودوافعها، وهو الأمر نفسه مع شعار الحرب على تنظيم داعش وإبقائه ذريعة لبسط يد الميليشيات الشيعية المسلحة.

وإذا كانت السياسة السعودية منذ لحظة الطائف تعطي لبنان امتيازاً خاصاً، كما هو الحال في رؤيتها لمركزية مجلس التعاون الخليجي ودور مصر في المنطقة، فمن غير المعقول أن يمعن الساسة اللبنانيون في إطلاق يد «حزب الله» كأداة إيرانية، منتظرين المزيد من التسامح السعودي، فالوضع تغير على أكثر من مستوى، أولاً لجهة قطيعة سياسة المملكة الخارجية مع ما يهدد استقرارها أو يتدخل في سيادتها، كما هو الحال مع تداعيات السلوك القطري، واستهداف تنظيم داعش والحوثيين، بل وصولاً إلى حتى مشاريع الانقلاب التي قادتها جماعات الإسلام السياسي، وصنِّفت كمنظمات إرهابية عطفاً على دورها في تقويض استقرار المنطقة، وثانياً لأن سلوك «حزب الله» لم يمس السعودية، فهو أقل من يضطلع بدور كهذا، بل أسهم في إطالة أمد الأزمة في اليمن ومعاناة الشعب السوري، واستهداف استقرار دولة البحرين، بل وابتلاع الحالة اللبنانية سياسياً وإضعاف هيبة ومنطق الدولة.

اليوم لبنان بفضل رعونة «حزب الله» وارتهانه بالخيارات الإيرانية المتهورة في المنطقة، على شفا كارثة اقتصادية محققة، حيث تتجاوز ديون الدولة الناتج المحلي بأكثر من 150%، والودائع الأجنبية ترحل بشكل مخيف، ولم يخفف من وطأة الانهيار السريع «حزب الله» أو نظام الملالي في طهران؛ بل بفضل حوالات اللبنانيين (15 مليوناً حول العالم، و500 ألف في الخليج) ومعظم التحويلات المؤثرة تأتي من السعودية التي ما زالت بحكمة قادتها تكنّ لكل المقيمين على أراضيها كل التقدير دون أن تأخذهم بجريرة وسياسات دولهم التي تطلق تصريحات معادية، ويخفق أمنها في حماية المواطنين في لبنان، بل يصل الأمر في بعض صحفها إلى السخرية بشكل غير لائق من صحافة تحترم مصداقيتها، في الوقت الذي لم تمس الحكومة السعودية ودائعها في مصرف لبنان منذ 1992 والتي تشكل 2% من الاحتياطي الأجنبي في لبنان، حتى بعد استقالة الحريري، حفاظاً على قيمة الليرة اللبنانية من الانهيار.

يخطئ الساسة اللبنانيون كثيراً هذه الأيام بتصوير ما يحدث على أنه استهداف لبنان، بل هو محاولة حازمة من السعودية والمجتمع الدولي لإنقاذ ما تبقى من سيادة الدولة اللبنانية من دولة الضاحية، التي توسعت ترسانتها لتشمل صواريخ بعيدة المدى، وأنظمة دفاع متقدمة، ومنظومات صواريخ، ومقاتلين يخسرون أرواحهم دعماً لنظام الأسد، وتحقيقاً لاستراتيجية إيران لا دفاعاً عن لبنان الذي تحول غالب قراه إلى بنية تحتية عسكرية للتجنيد والتخزين وبناء الأنفاق، مما بات لا يشكل أي تهديد لإسرائيل، كما يقال في الشعارات الجماهيرية عادةً، بل لمعنى ومفهوم الدولة اللبنانية ذاتها، وحتى محاولة استفزاز إسرائيل ببعض العمليات الصغيرة والمحدودة، فهي إنْ وقعت فلن تكون سوى محاولة من الحزب لاستعادة شرعيته في الداخل بعد أن طالته سهام النقد حتى من قواعده الاجتماعية بسبب خسائره في سوريا.

الحديث اليوم ليس عن تجاوزات «حزب الله» السياسية داخل لبنان من تعطيل الحكومة إلى الاستحواذ على الشارع، بل الحديث عن مواجهة مباشرة مع دول الخليج، عبر خلايا من المقاتلين الجاهزين للانقضاض على حالة السلم، ولتمرير هذا التدخل السيادي يتم الحديث عن قضايا طائفية، وجرها من مربعها الآيديولوجي الديني إلى الجانب السياسي، ومن هنا نرى الآن مستوى منسوب الطائفية الذي وصلنا إليه.

«حزب الله» يواجه أصعب أوقاته الآن، لا سيما بعد حالة التصحيح التي تقودها المملكة تجاه استهداف الإرهاب دون تحيّز، وتراجُع الحالة السورية يعني أن الحزب أمام استنزاف لكوادره وموارده بشكل غير مسبوق، لا سيما بعد التقارير الدولية التي تحدثت بشكل واضح عن تورط الحزب في الاتجار بالمخدرات وغسل الأموال والاتجار بالسلاح، يديرها الجناح المتشدد داخل الحزب.

السعودية تقود اليوم تحالفاً إسلامياً عربياً ضد الإرهاب، وليس من المنطق أن يرتكز مفهوم الإرهاب على نموذج «داعش» وباقي التنظيمات ذات المرجعية السُّنية، بينما تظل أذرع إيران وميليشياتها المسلحة، وعلى رأسها «حزب الله» خارج نطاق الإرهاب، بل يمكن القول إن الحزب بوضعيته التي وصل إليها اليوم بسبب عطل الحالة السياسية في لبنان، هو الشكل الأكثر تغولاً في مفهوم الدولة من باقي التنظيمات المسلحة، فهو يملك ترسانة متكاملة من الأجهزة والمؤسسات والخدمات المجتمعية، التي تشمل حتى فئة الأطفال الذين يتم تكوينهم ضمن آيديولوجية الحزب المتطرفة التي تبدو مستنبة داخل لبنان، الذي يعرفه العالم بعروبته وتنوعه المدهش.

من حق السعودية وأي دولة مستقلة في العالم أن تحمي سيادتها من أنشطة حزب إرهابي داخل أراضيها، وهي إجراءات تتخذها الولايات المتحدة وأوروبا بهدف قطع الطريق على المتواطئين مع «حزب الله» في قطاعات الأعمال والتجارة والمصارف.

والحال أنه لم يعد للحزب من رصيد إيجابي، فيما يخص شعارات المقاومة ومحاربة إسرائيل، لا سيما بعد أن انهالت الإحصاءات والأرقام حول مدى تغلغل الحزب في الحالة السورية، ومساندة نظام بشار الأسد، وعودة مئات التوابيت إلى لبنان، وتقويض الدولة اللبنانية كهدف ثانٍ بعد التدخل العسكري في المستنقع السوري، واليوم يحاول الحزب استثمار الهجوم على الخليج ودولة عملاقة في المنطقة كالسعودية، في محاولة للتغطية على جرائمه داخل لبنان وخارجه.

الساسة اللبنانيون قبل غيرهم يدركون جيداً أنه لم يعد «حزب الله» فصيلاً سياسياً لبنانياً، وممارسته السياسية هي مجرد لافتة براقة للإمساك بمفاصل الدولة اللبنانية، بل واللعب على ملفات خارجها واختزالها في دولة الضاحية.

الأكيد أن خطوة السعودية الكبيرة نحو إيقاف تمدد «حزب الله»، لم تكن رمية نرد، أو عزفاً سياسياً منفرداً، بل تزامنت مع توجه دولي لوقف التدخلات الإيرانية وأذرع الملالي العبثية وعلى رأسها «حزب الله».