Site icon IMLebanon

خطر إيران صار مقيماً

 

 

«رفع الوصاية الإيرانية عن القرار الوطني اللبناني دفاعاً عن الدستور وحماية للعيش المشترك»، عنوان شغل بيروت السياسية والإعلامية عندما قرر الطرف السياسي الذي يمتلك فائض القوة، إقفال قاعات الفنادق في العاصمة بوجه جمعية فكرية لبنانية رسمية تنشط تحت سقف الدستور والقوانين المرعية، «لقاء سيدة الجبل» أرادت الإضاءة على تحدٍ وجودي للبنان واللبنانيين. موضوع سلّط الضوء على المدى الذي بلغته اليد الثقيلة القابضة على قرار البلد، وحدها الجهة التي تسمح بما يمكن أن يقال، ويعود لها حجب كل رأي آخر… وليتضح أن ما كان يعتبر خطراً خارجياً يطرق أبواب لبنان بات مقيماً، وأن المواطنين اللبنانيين بعد اليوم مدعوين للإقلاع عن عادة التفكير بحرية والعيش بحرية واتخاذ القرارات السياسية تحت سقف القانون بحرية.

الأمر الخطير في هذا الموضوع تمثل في الصمت الذي لف الجهات المسؤولة عن ضمان تنظيم هذا الحدث وحمايته فتعاطت معه وكأنه لا يعنيهم. والأمر الخطير في هذا الصمت أن أهل سلطة المحاصصة، المتخاصمين على الحصص في الحكومة، جاء تعاطيهم وكأن قضية فرض القيود على الحريات العامة التي عانى أكثريتهم منها، اغتيالاً وسجناً ونفياً وقمعاً لمؤيديهم، صارت قضية لا تعنيهم طالما هي تطال من تحفظ أو انتقد المساومات التي انخرطوا فيها، وهم قالوا لمنتقدي التسوية الشهيرة: سلاح «حزب الله» مسألة إقليمية لا نملك حلاً لها، والتسوية هي السبيل لوقف الانهيارات التي شملت كل مؤسسات الدولة وفاقمت الوضع الاجتماعي ووضعت البلد أمام خطر الانهيار المالي. إنها المعزوفة التي لا تقنع أحداً لأن العامين الفائتين شكلا قفزة نوعية في التراجع على كل الأصعدة.

يدفع لبنان اليوم ثمن التسوية الرئاسية والحكومية لأنها في جوهرها وحقيقتها مثلت استيلاء «حزب الله» على السلطة الفعلية، فيما كل الآخرين تحولوا إلى موقع الشريك المضارب الذي فقد القدرة على المشاركة الحقيقية في صنع قرار البلد والحفاظ على دوره وضمان الحد الأدنى من التوازن الذي يعكس ميزان القوى الشعبي، الذي بدليل حجم المقاطعة الانتخابية استمر هذا التوازن ولم يتغير كثيراً مع التسوية – الصفقة. وبفعل هذا التطور المستند إلى السلاح الخارج عن الدولة تحددت أُسس تعيين رئيس البلاد وبُت قانون الانتخاب المجحف الذي يحدد سلفاً 95 في المائة من النواب «الفائزين»… ويمنع على فئات لبنانية الحق في التعبير المسؤول عن الأحداث الخطيرة التي تواجه لبنان والمنطقة.

في العام 2005 وبعد «انتفاضة الاستقلال» عاش اللبنانيون فرحة الاستقلال الثاني الذي أنهى زمن السيطرة الخارجية التي حكمت لبنان بالحديد والنار وتغييب المعارضين ليكتشفوا اليوم عودة تلك المرحلة وأن مقدرات البلد يتحكم الخارج فيها وغالبية السياسات التي يُدفع إليها لبنان تستجيب، على الأعم الأغلب، لمتطلبات أجندة النظام الإيراني والنظام السوري، والكل كان متابعاً لحملة الابتزاز التي مورست لانتزاع التطبيع مع النظام السوري مقابل الاستفادة من معبر «جابر نصيب»، وعندما لم تنجح هذه الخطة فرضت دمشق رسوماً أكثر من مضاعفة على المنتجات اللبنانية في تحدٍ جلي لكل الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين البلدين!!

قبل أسابيع قليلة على بدء واشنطن فرض الحزمة الثانية من العقوبات على النظام الإيراني، وخصوصاً المنحى الأميركي لتصفير تصدير النفط الإيراني، وبعد صدور القانون الأميركي الذي يُجرّم تنظيمات عالمية بينها «حزب الله»، ويضعها في مرمى الملاحقة والمكافحة ومعاقبة أي جهة تثبت مشاركتها في تمويلها أو تسليحها، يتصاعد التوتر في طهران ويتزايد القلق من حجم الانهيارات على كل الأصعدة وما تثيره من تداعيات شعبية شملت كل الأعراق في إيران، فتشتد الضغوطات لإبعاد كل ما يعيق عملية استخدام لبنان كواحدة من الساحات الخلفية التي عليها أن تساهم ولو جزئياً في الالتفاف على العقوبات الأميركية… هذا يفسر جانباً من التراجع الذي تتعرض له الحريات العامة في لبنان خصوصاً في العامين الأخيرين حيث تتسارع المظاهر التي تنبئ بقيام الدولة البوليسية والتعاطي مع القوانين باستنسابية كبيرة.

أثبتت التجربة وكل التطورات من العراق إلى سوريا مروراً باليمن وبالطبع لبنان، أن حكام طهران يستثمرون في التوتر والحروب الأهلية وإقامة دولة داخل الدولة، وجيش رديف ومؤسسات رديفة لزعزعة الاستقرار من أجل وضع يدها على بلدان المنطقة ومقدراتها، وكل تعامٍ من جانب من هم في سدة المسؤولية عن هذه المخاطر إنما يُعجل بوقوع الكارثة، أي كارثة فقدان السيادة والاستقلال وضياع البلد. وما أراده «لقاء سيدة الجبل» كان هاجسه التوعية والتحذير قبل وقوع هذه الكارثة فاكتشف الجميع أن الخطر الذي كان على الأبواب أصبح في الداخل، والسلاح المتفلت من القوانين لا يحمي البلد والناس بل يخدم مصالح ومخططات إقليمية، وما يستدعي الأسف أن بعض الساسة في بلاد الأرز يريدون لأكثرية المواطنين أن يفكروا برأس أهل السلطة ومكاسبها الآنية ومصالحها الفئوية، وليس برؤوس الناس وما يضمن مصالحهم والمصلحة الوطنية.

اليوم أكثر من أي وقت مضى لا بديل عن إدراك حجم الخطر المحدق بالبلد، وهذا ما أرادته مجموعة النخب التي تداعت للنقاش والحوار ووضع حصيلة ما تصل إليه بين أيدي المواطنين، وهي تنطلق من هدف صون الحريات العامة الذي يرقى إلى هدف الدفاع عن الهوية الوطنية واحترام التعددية، الميزة التي تطلق التنافس والإبداع في مسار الابتعاد عن نهج الإغراق في زواريب الطائفية والنزاعات باسم الطوائف التي تضع البلد كل فترة على حافة حرب أهلية تؤبد الانقسام بين الطوائف والناس… وتسهل مخطط الهيمنة على قراره ومقدراته.

الوضع الصعب والدقيق يضع النخب اللبنانية المشتتة والمستقيلة أمام تحدي العمل لاستعادة الشباب إلى السياسة، من خلال الصدق في السعي لاستنهاض مشروع الدولة، لأنها في نهاية المطاف وحدها الملاذ والضمانة للأمن الحقيقي والحرية وبدء الحد بشكل حقيقي من الفساد وضمان مصالح الناس ومكانة البلد ودوره في محيطه العربي… والوقت كالسيف!