لم تعد أهمية الساحات الثائرة في لبنان تقاس بقدرتها على الإستمرار، بل بما تقدّمه كل يوم من نماذج متفرقة عن إنجازات ومؤشرات نحو المزيد من التصدع في هياكل السلطة السياسية. بالأمس الأول قدّمت نقابة المحامين نموذجاً عن إسقاط هيمنة السلطة المزمنة على النقابات وهيئات المجتمع المدني. تحرّرت نقابة المحامين من قيود سلطة سياسية حوّلتها الى أداة لحجب العدالة وحماية المرتكبين واختطفت دورها المجتمعي وأدخلت الفساد الى صفوفها، فتبوأها محامون يدافعون عن السلطة والشركات والبنوك ويتكابرون على هموم الناس. حتى الأمس القريب وفي مناسبات عديدة يعرفها اللبنانيون هدّدت النقابة بطرد محامٍ يدافع عن الفئات المهمشة لأنه أزعج السلطة، ورفضت رفع الحصانة عن محامين متهمين بالفساد وغطّت الفساد في ملف التأمين الذي انعكس على التقديمات الطبية، وسحبت تكليفات المحامين الذين تطوعوا للدفاع عن المتظاهرين ودعمت السلطة بوجه الثورة. في الأول من أمس، وفي أحد الشهداء، إحتفل محامو لبنان باستعادة نقابتهم من براثن سلطة مذعورة فشلت بالرغم من استنفارها، فيما كان الثوار في الساحة نفسها يكرمون شهداءهم. كرّمت بيروت العدالة من بوابة نقابة المحامين فعادت أم الشرائع وكرّمت الشهداء فأعادت الروح الى أعرق ساحاتها.
لم تكن محاولات ما تبقى من سلطة بالإلتفاف على الشارع الثائر لتقديم نفسها بوجه آخر أكثر نجاحاً. المسرحية ذات الطابع الدستوري بتسمية الوزير السابق محمد الصفدي التي هُرّبت بعد اجتماع في كواليس بيت الوسط بين الوزير جبران باسيل والرئيس سعد الحريري مثّلت شكلاً فاضحاً للتعثّر والذعر على مستوى أركان السلطة. الهرطقة الدستورية التي كان الوزير باسيل بطلها في السماح لنفسه بتجاوز المجلس النيابي ورئيس الجمهورية وبالإعلان عن بدء الإستشارات النيابية المُلزمة وعن نتيجتها مسبقاً والتي تحوّلت الى حرب بيانات بين رئيس الحكومة والتيار الوطني الحر لم تكن الحدث الأهم، بل التنصل من التسمية على قاعدة «لمين هالصبي الضايع» كانت هي الحدث الأبرز، تحوّل المرشح الذي هام على وجهه بين بعبدا وبيت الوسط في غضون ساعات قليلة، من مرشح شبه مؤكد لرئاسة الحكومة الى سياسي ضلّ طريقه على وقع حملات الثوار والمجتمع المدني التي وضعته في دائرة الاستهداف.
مؤشر جديد أُضيف في الأيام القليلة المنصرمة عبّرت عنه «بوسطة عكار» التي توقفت في صيدا ومُنعت من إكمال رحلتها نحو الجنوب بالرغم من ترحيب النائب أسامة سعد بدخولها الى صيدا. بوسطة عكار التي أُلصقت بها كل تُهم العمالة للسفارة الأميركية ولمن يدور بفلكها وصوّرت كأنها بوسطة المؤامرة الموقوتة التي ستفجّر لبنان، لم تكن سوى اختباراً للقوة القاهرة التي تحكم لبنان ومدى قدرتها على التواصل وفهم الآخر، ومدى ثقتها بثبات البيئة التي حكمتها ورعتها ووضعت لها نموذجاً للحياة والآخرة أمام هذا الآخر الذي شيطنته وبنت عليه نظرياتها الجهاديّة. يخاف حزب الله أن تستسيغ بيئته، التي تترنح تحت ضغط الجوع والفقر، خطاب الثورة من أجل حياة أفضل في لبنان أكثر من خطاب المقاومة من أجل ولاية الفقيه الذي خبرته على مدى أكثر من ثلاثة عقود. ويدرك حزب الله أنّه لا يستطيع التمايز عن باقي البيئات اللبنانية أمام مشهديّة إقليمية كبرى تمتد من طهران الى بيروت مروراً بالعراق وسوريا وعنوانها الثورة على الظلم والتهميش والفقر. لم يعد بإمكان الطروحات الجهاديّة إقناع الثوار في أكثر من 100 بلدة ومدينة إيرانية يسكنها شيعة وسنة وأذريون وبلوش بجدوى نظرية تصدير الثورة، كما لا يمكن لجاذبية قاسم سليماني أن تعيد سكان المحافظات الشيعية العراقية الثائرة والجائعة الذين يتألمون لاستباحة حياتهم ومستقبلهم وثرواتهم ومراجعهم، وهم يثأرون اليوم لكرامتهم وسيادتهم ويرفضون حكامهم الذين فرضتهم طهران.
ما تتميّز به ثورة لبنان أنها نتاج تراكم سياسي عمره أكثر من أربعة عقود وليس صحيحاً أنها منقطعة عما سبقها، هي ولدت ثورة ناضجة عصيّة على نظريات الحروب الأهليّة يحميها تنوّعها ولا مركزيتها. يدرك السياسيون صعوبة المواجهة والإمعان في التّحدي في ظلّ انسداد الأفق الدولي والإقليمي، أنّ الأسلاك الشائكة لا تحمي القصور بل قد تجعل ظلامها أقسى من ظلمة القبور.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات