في اليوم الخامس على بدءِ الجيش اللبناني معركة «فجر الجرود»، أطبقت الوحدات العسكرية المتقدمة على «رأس الكاف»، ومغارة «الكاف» الصخرية، التي تتسع لأكثر من 300 مقاتل مع كامل الأسلحة والمعدات العسكرية. إنها المنطقة الاستراتيجية التي تُعدُّ أعلى مرتفعات السلسلة الشرقية لجبال لبنان، والتي كان تنظيم داعش الإرهابي قد اتخذ منها غرفة عملياته ومقراً لمجرميه، كونها تشرف على أكثر قرى وبلدات البقاعين الشرقي والشمالي، وعلى مناطق واسعة من الأراضي السورية المحاذية، وتحيط بها الوديان الوعرة الشديدة الانحدار، ومفتوحة على وادي ميرا، طريق الملكة زنوبيا التاريخي، الممر الذي استخدمه كثير من الدواعش للفرار باتجاه الداخل السوري.
ما تقدم يؤكد أن الجيش اللبناني نفذ ما طُلب منه بكفاءة عالية، وأثبت القدرة على حماية الحدود واللبنانيين والنازحين السوريين، وكما في حرب نهر البارد ضدّ مجرمي «فتح الإسلام» عام 2007، عندما توفر القرار السياسي، قام الجيش بالدور الموكل له. خط أحمر وُضِعَ أمام الجيش في نهر البارد، وإصرار على «التنسيق» في معركة الجرود، وهذه كانت دعوة للالتحاق بغرفة عمليات الجيش السوري و«حزب الله» التي يقودها «الحرس الثوري». دعوتان من الجهة نفسها، من السيد حسن نصر الله، وفي المرتين كان القرار السياسي، وأداء الجيش ودوره، يصبّان فقط حيث تكمن المصلحة الحقيقية لكل لبنان، لبنان المنخرط في تحالف دولي ضد الإرهاب.
وكانت الحصيلة مرة أخرى، وبسرعة قياسية، سقوط الحجج والدعايات الممجوجة عن ضعف ساعد الجيش والقوى الشرعية اللبنانية، إذ بالحديد والنار وبالدم والعرق، تحقق نجاحٌ مدوٍ في أخطر اختبار، ما دلَّ على القدرة على فرض سيطرة السلطة الشرعية على كامل الأراضي اللبنانية. أكثر من ذلك وصل الجيش، المنتشر جنوباً على الخط الأزرق على التماس مع العدو الصهيوني، إلى آخر نقطة من الأراضي اللبنانية شرقاً، وهي أراض محددة الحدود. لكن حتى الأمس القريب، كان هناك من يمنع اللبنانيين من مجرد التفكير باحترام ترسيمها كي تبقى أرضاً مستباحة أمام كلِّ طامحٍ طامعٍ.
اليوم، وتطهير مواقع الإرهابيين دخل مرحلته الأخيرة، يثور السؤال طارحاً نفسه: لماذا تُرك الباب مفتوحاً أمام الإرهابيين يقيمون القواعد فوق أراضٍ لبنانية؟ ولماذا طُلب من الجيش وقف النار، بعد معركة عرسال الأولى، يوم اتخذ إرهابيون من النازحين متراساً لتنفيذ الاعتداءات على الجيش وخطف العسكريين؟ ولماذا قَيدت الحكومات السابقة يد الجيش بين الأعوام 2012 و2016؟ ولخدمة من؟ وما الحكمة والمصلحة من هذا الإيحاء بأن لبنان عاجز عن حماية حدوده وأبنائه واللاجئين إليه؟ ولماذا التجاهل الرسمي لمرجعية القرارات الدولية، القرار 1559 والقرار 1701، التي توفر دعماً دولياً منزهاً للبنان لبسط سيادة غير منقوصة على كامل أراضيه؟
لقد دقّت ساعة الحقيقة، فمعركة «فجر الجرود» تفرض على السلطة السياسية أن تصون النصر، والحذر من أي تضحية بالإنجاز الكبير، إنجاز بسط سلطة شرعية غير مشروطة. وبهذا السياق، أثارت زيارة موفدٍ إيراني إلى بيروت في هذا التوقيت كثيراً من الأسئلة، خصوصاً أنها بدت كمحاولة ممجوجة لقطف ثِمار الانتصار العسكري للجيش، من خلال إبراز مدى الحضور الإيراني في لبنان. وهذه الزيارة التي تزامنت مع حرب الجرود، ربما أُريد منها الإيحاء بأن طهران هي الجهة الممسكة بلبنان، ورقة في ملفها لتحسين شروطها عندما يحين أوان البازار الدولي في المسألة السورية. أياً كانت النيات، وتجارب الماضي لا تشجع، يجب ألا تؤخر المداخلات التي ستتسع، لإعادة طرح موضوع السلاح غير الشرعي على قاعدة تنفيذ اتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية، وبالتحديد هنا القرار 1701، الذي في ظله عرفت منطقة الجنوب رخاءً وأمناً، فيما السلاح الفالت الذي يستظل السلاح الفئوي استباح أكثر المناطق، ويُستغلُّ لأبشع الموبقات؛ من التعديات على حياة الآمنين كلما أُلقي خطاب نصر، أو تغطية الممنوعات، كتجارة الكبتاغون وسائر المخدرات.
إنها مرحلة الضغوط على السلطة السياسية لطي صفحة «النأي بالنفس»، والذهاب إلى فرض التطبيع مع رأس النظام السوري، لمده بالدعم عشية مفاوضات الخريف بشأن سوريا، وهي مفاوضات قد تشهد نقلة نوعية باتجاه «تسوية» ما للأزمة التي أنهكت كل أطرافها. والأكيد أن نصر الجرود سيضع كثيراً من العوائق أمام تمرير مثل هذا المنحى، ولا بد أن تكون الأولوية عند الحريصين على مستقبل البلد وأمنه منع أخذه إلى انقسام كارثي، فظروف نصر الجيش ينبغي أن تحُث أوسع الأوساط على التحرك لطرح مصير سلاح «حزب الله»، لحصر حق الإمرة بيد الجيش دون شريك، وهذا المسار صعب ودقيق ومكلف، لكنه من جانب المصلحة الوطنية، يبقى أقل تكلفة من الأثمان التي يمكن أن تُفرض على لبنان جراء دفعه إلى محور «الممانعة»، ولبنان بلد التسويات مؤهلٌ لأن ينجح في امتحان استيعاب السلاح والمسلحين، مهما طال الوقت، فيتحول نصر «فجر الجرود» إلى تكريس فجر السيادة الوطنية.