ما يميّز ثنائي “حزب الله – حركة أمل” في هذه الإنتخابات النيابية استيعابهما السريع لـ”ماهية” القانون الإنتخابي المقرّ في العام الماضي، وسهولة تشكيلهما لوائح في الدوائر ذات الكثافة الشيعية، على قاعدة المناصفة بينهما، مع “وديعة” أو اثنتين طلبهما النظام السوري، ومع العمل الحثيث لتفادي الخروقات الإنتخابية، ثم استباق الإستحقاق بشيء من التعاطي الواقعي من امكان الخرق باسم واسمين في دائرة بعلبك الهرمل، وبقاء العين على معركة بيروت الثانية، التي يمكن اعتبارها “مركز الإستحقاق النيابي” بامتياز، والخوض، بالنسبة إلى “حزب الله” تحديداً في تحدّ لم يكن متوقعاً قبل فترة، في دائرة كسروان جبيل، من خلال تشكيل لائحة يشكل مرشح الحزب “جوهراً” لها، وثمة صعوبة لديها في انتزاع الحاصل، من دون أن يكون الأمر تعجيزياً.
الثنائي “الشيعي” استبعد من دائرة خطابه الإنتخابي حديث الاستحقاق السابق عن “اعادة تشكيل السلطة في لبنان”، وعن افراز أكثرية تحكم وأقلية اذا أحبت تعارض وإذا أحبت تشارك في الحكم تحت أمرة الأكثرية، بل أعلن اقطاب الثنائي انهم لا يخوضون الاستحقاق من أجل تأمين أكثرية لها توليفة سياسية برنامجية مشتركة هذه المرة، أي أنّهم لا يخوضونه كاستحقاق من موقع 8 آذار في مواجهة 14 آذار، ويأخذون علماً بتجاوز هذه الثنائية، لكنهم يخوضونه كاستحقاق يتنافسون فيه في كل الدوائر مع الطرفين الأساسيين في مسيرة 14 آذار في العشرية الماضية، تيار “المستقبل” و”القوات اللبنانية”، ويتنافسون فيه مع التيار “الوطني الحر” في عدد من الدوائر ويلاقونه في أخرى، مع الاحتفاظ بـ “تفاهم مار مخايل” كتوافق ليس له ترجمة انتخابية تحالفية.
على الرغم من أن “حزب الله” هو الأكثر احتفاء بالقانون الجديد، الا أنّ هذا القانون الذي يرى فيه تحسين صحة التمثيل، لم يستتبع عنده تصويراً للاستحقاق الانتخابي الحالي أنّه مفصلي. يعتبره، اذا أمكن التعبير، استحقاقاً “انسيابياً”، منسجماً مع السياق القائم منذ فترة في البلد، وهو سياق غير تصادمي بشكل حاد كما كانت الحال قبل اعوام مثلاً، لكنه سياق قائم على انعدام التوازن لصالح “حزب الله”، الأمر الذي يعود أساسه إلى امتلاكه السلاح، لكنه لا ينحصر في هذا فقط.
على أي أساس تخوض القوى السياسية الأخرى الإستحقاق، وبالذات تلك المعترضة بأشكال متفاوتة على عناوين انعدام التوازن في التركيبة والصيغة التي يجسّدها الحزب؟
هنا، لا مناص من الإقرار بتمايز بين تيار “المستقبل” وبقية المتحدّرين من 14 آذار، سواء المتقاطعين مع “المستقبل” في دوائر بعينها، أو المزايدين عليه والمتواجهين معه حيثما أمكن لهم ذلك. فالتيار الذي يقوده رئيس الحكومة سعد الحريري يمكن للمرء أن يوافقه على هذا العنوان أو يعترض على ذاك العنوان، لكن لا بد من الاعتراف له، بأنّه وحده الذي يقول للناخبين ما الذي سيفعله ثاني يوم الإنتخابات اذا كانت النتائج في الدوائر التي يخوض فيها السباق لصالح لوائحه: السير قدماً في مسار التسوية الرئاسية والحكومية، والسعي المتواصل لتحسين شروط النأي بالنفس، وايجاد ترجمة اقتصادية مالية لهذا النأي، واعتبار أنّ انعدام التوازن القائم في البلد لصالح “حزب الله” هو أمر يمكن بالأساس تقليصه تدريجياً من خلال تأطير النزاعات والخلافات، وكذلك الحوارات والمبادرات، من خلال المؤسسات.
قد يكون لبعض القوى الأخرى تشخيص يسلط الضوء على وقائع انعدام التوازن لصالح الحزب بشكل أكبر، لكن أياً من هذه القوى المتحدرة من تركة 14 آذار، باستثناء تيار “المستقبل”، لا يقول للناخبين، ما الذي يفعله، ويمكن أن يفعله، ثاني يوم الإستحقاق، إن هو نجح في الدوائر التي يخوض فيها الإستحقاق، وما الذي يفعله إذا لم يحالفه النجاح.
هذا الوضوح بالذات، لجهة امتلاك رؤية لليوم التالي للإنتخابات، يلعب اليوم دوراً محورياً في الموسم الإنتخابي، وكلما جرى التمسك به بشكل أفضل، وأكثر منهجية، كلما تقوى هذا الإتجاه. فبعد كل شيء نحن أمام استحقاق نيابي ينفرد فيه تيار “المستقبل” بقول ما الذي بمستطاعه فعله وسيفعله ثاني يوم الإنتخابات، السير قدماً في التسوية وتحسين شروط تفاهم النأي بالنفس وزيادة الضمانات الداعمة له، في مقابل قوى إما تراكم في “نقد التسويات” القائمة، وإما تحاول الجمع بين الانخراط في التسوية والانخراط خارجها. هذا من جهة اللفيف الذي شكل التجربة الجبهوية المهمة في التاريخ اللبناني الحديث، تجربة قوى 14 آذار، التي تحتاج خصوصاً بعد هذه الانتخابات، الى من يكتب تاريخها الكامل بنقدية وشفافية وصراحة. هذا اذا احتسبنا المجاهر به. طبعاً، ثمة من يخوض الاستحقاق النيابي وفي باله استحقاقات تفصلنا عنها سنوات عديدة، وهذا يصح بالنسبة إلى سائر القوى الحزبية المسيحية، تاريخياً في لبنان، وفي هذا الاستحقاق أيضاً، لكن الإنتخابات النيابية ترتبط أولاً بالسؤال المحوري بالنسبة لأي فائز فيها، عما سيفعله في اليوم التالي، وليس بعد حين. وما الذي سيفعله في ما يتعلّق برسم معالم المرحلة القادمة، انطلاقاً من تشكيل الحكومة العتيدة بعد الانتخابات، وهنا، الفارق بين من يقدّم الجواب ومن لا يقدّم جواباً، ليس أبداً بفارق ثانوي. الإستحقاق ليس هو نفسه عند جميع الأطراف.