IMLebanon

اليوم الذي تغيّرت فيه مفاهيم الطوائف

قبل عشر سنوات، وبعد ان تأكد خبر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تجمع شبان في حلقات دائرية امام مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت وراحوا يقفزون ويشتمون سوريا ورئيسها بصوت عال. اتسعت الحلقات وازدادت الاعداد في محيط المستشفى وصولا الى محلات في الحمرا اقفلت ابوابها على ايقاع الشتم العلني.

في تلك اللحظة بدا واضحا ان شيئا غير مألوف يحصل. وان السنّة في لبنان يبحثون عن مفرداتهم ليترجموا الكثير من المكبوت. لم يكن هؤلاء يملكون خطاب المسيحيين «حرية، سيادة، استقلال»، ولا شعار الشيعة «هيهات منّا الذلة» ولا حتى راية «الحزب التقدمي الاشتراكي» التي ينضوي في فيئها الدروز. فاض غضب السنّة واحساسهم بالاستهداف فما وجدوا في تلك اللحظة الا الشتم يفش بعضا من ظلامتهم. لاحقا، سيغير ذاك الغضب تموضع السنّة واولوياتهم فيتقدم فيها لبنان على قضايا المنطقة، وستكون لهم رايتهم الزرقاء وشعاراتهم وحزبهم وخطابهم.

اما لواء الاعتدال الذي حمله رفيق الحريري على كل المستويات، فهو مستهدف اليوم ويحاول تياره جاهدا ابقاءه مرفوعا في وجه رايات التطرف الخفاقة في المنطقة.

لم يتغيّر السنة فقط في خلال السنوات العشر الاخيرة. قيل الكثير عن تغيّر البلد واحوال ناسه وسائر طوائفه.

في المقلب المسيحي، تم سريعا تبني شهادة الحريري بصفتها خسارة لرجل استقلالي. فبعد ان خاصمت معظم القوى المسيحية الحريري حيّا، عادت وصالحته بعد استشهاده. لذلك اسبابه التي بدأت من التواصل «السري» بين الحريري ولقاءي «قرنة شهوان» و«البريستول»، كما له موجبات اللحظة من التضامن العفوي مع الضحية، خصوصا ان اصابع الاتهام توجهت سريعا الى «العدو المشترك»، اي «النظام الامني اللبناني السوري»، وهو ما كان المسيحيون يشكون منه على امتداد 15 عاما.

بعد سنوات من اتهام الحريري بالشراكة في تهميش المسيحيين وصولا الى رغبته في «أسلمة الارض» وانشاء جامع في جونية مثلا، انتبه المسيحيون الى عبارات كان يرددها الحريري كالمناصفة والمساواة والعيش المشترك. تماما كما انتبهوا مؤخرا الى كلام له يؤكد فيه ان «المسيحي المعتدل اقرب اليّ من المسلم المتطرف».

تغيّر واقع المسيحيين بعد ذاك الـ14 شباط. تحقق لهم «حلم» خروج الجيش السوري من لبنان. عاد ميشال عون من منفاه وخرج سمير جعجع من سجنه. تعززت شراكتهم في الحياة السياسية بعد انكفاء وشكوى. لكن الصراعات في اوساطهم لم تتراجع. على العكس، ازدادت مع تزايد هواجسهم وانقساماتهم، فعادوا واختلفوا على كل شيء تقريبا، بما فيها شهادة الحريري. ويحاولون اليوم ترميم تصدعات كثيرة سبقت ذاك الزلزال ورافقته وتلته.

لم تكن ارتدادات اغتيال الحريري اقل حدة على الشيعة في لبنان. مرت عليهم فترات شعروا ان البلد تكتل ضدهم. حتى من كانوا بينهم من «الخط السيادي» هُمشوا من حلفائهم المفترضين في «14 آذار». سادت القطيعة والجفاء. ازدادت المسافات بينهم وبين سائر الطوائف. هذا ما كان ليحصل في زمن رفيق الحريري الذي ابقى دوما «شعرة معاوية» موصولة مع الجميع. بعد اغتيال الحريري والاتهامات التي سيقت الى مسؤولين في «حزب الله»، انتهى زمن توزيع الادوار. صار الحزب متهماً، في المباشر حينا وفي المواربة احيانا. ومع تطورات المنطقة المأساوية صار الخوف من ايقاظ الفتنة السنية – الشيعية هاجسا يوميا عند العقلاء من الطرفين.

وبين هؤلاء واولئك وقعت الطائفة الدرزية ايضا تحت هول صدمة اغتيال الحريري. من رافق الساعات والايام التي تلت الاغتيال، يعرف جيدا ان زعيما درزيا اسمه وليد جنبلاط كان اول من حمل نعش الشهيد، بالمعنى السياسي، على كتفيه. لولا وقفته ومواقفه غداة الاغتيال، لولا الصلابة التي اظهرها، لما شكّل 14 شباط نقطة مفصلية كان لها ترجماتها اللاحقة الى اليوم.

لكن لو اتيح لجنبلاط العودة الى مساء 14 شباط وما تلاه، هل كان ليكرر السيناريو ذاته؟ الاجابة شديدة الصعوبة حتى على جنبلاط نفسه الذي كان يقرأ يومها في المتغيرات والتطورات ما حكم تصرفاته. الارجح انه سيكرر تلك المواقف تماما كتكراره العودة عن الكثير منها، خصوصا انه نجح حتى الآن في الحفاظ على هامش مقبول من هدفه: حماية طائفته وتحييدها، قدر الامكان، عن دفع الاثمان الكبيرة.

لم يكن استشهاد الرئيس رفيق الحريري حدثا عابرا في الحياة السياسية اللبنانية. بعد عشرين او خمسين سنة سيُقرأ على ضوء مصير كل المنطقة وليس فقط طوائف لبنان. لكن الاكيد ان الحفرة التي احدثها اغتيال الحريري في بيروت اغلقت على زغل وزعل طالت تداعياتها كل طوائف لبنان، فيما يبدو العلاج بعيدا.