قرار مُربك ذلك الذي أعلنه الرئيس الفلسطيني بوقف العمل بالاتفاقات المبرمة مع إسرائيل. الأسباب والمبررات والدوافع واضحة: إسرائيل لا تطبق تلك الاتفاقات وتعتبرها غير موجودة لكنها تتوقع من الفلسطينيين تطبيقها من دون تلكّؤ. أما الإرباك فيشمل جميع المعنيين، بمن فيهم الاميركيون الأوروبيون والعرب، والملاحظ أنهم لم يعلّقوا على هذا القرار بعد، كذلك فعل الاسرائيليون. لكن الإرباك ينعكس خصوصاً على الفلسطينيين أنفسهم، إذ أنهم قد يشرعون في وقف العمل بالاتفاقات من دون أن يجدوا بدائل منها، فإسرائيل حوّلت “سلام أوسلو” – أو بالأحرى “لا سلام أوسلو” الى مصيدة، واستثمرت في الوضع العربي المختلّ، كما في المواجهة الدولية – الإقليمية مع إيران، بغية فرض أمر واقع احتلالي دائم يضع الشعب الفلسطيني وأرضه وحقوقه وطموحاته على طاولة مساومات وتسويات تتجاوز قضيته بل تشطبها.
عاماً بعد عام، لوّح محمود عباس من على منبر الأمم المتحدة بتجميد الاتفاقات (السياسية والأمنية والاقتصادية…)، واتخذت مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” قرارات مكرّرة في هذا الشأن، منتقدةً تردّد السلطة في تطبيقها. وإذ عبّرت تلك القرارات عن سأمٍ ويأس وإحباط وإرادة مواجهة ورغبة في تصعيد “المقاومة الشعبية السلمية” الى مستوى أكثر وضوحاً، فإن تردّد السلطة استهدف إشعار المجتمع الدولي بخطورة الأوضاع في الأرض المحتلّة، واستنفاد كل الجهود والآمال وإمكانات تغيّر الظروف في اتجاه استئناف التفاوض في إطار “عملية السلام” على رغم ما اعتورها من أعطاب وانتهاكات. لكن الموقف الأميركي، تحديداً موقف دونالد ترامب، معطوفاً على تواطؤه مع بنيامين نتانياهو لتعطيل ملفات التفاوض وإفراغها من محتواها، لم يترك للسلطة الفلسطينية خيارات كثيرة، بل أشعرها بأن الصراعات على إيران وسورية والعراق ولبنان واليمن استضعفت القضية الفلسطينية الى حدّ التأهب لسحقها وتدفيعها ثمن أي تسويات إقليمية.
لم يقبل العرب والمسلمون، ولم يقبل المجتمع الدولي، الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، كما لم يقبلوا الاعتراف الأميركي بمرتفعات الجولان السورية كـ “أرض إسرائيلية”. لكن هذا الرفض لم يمنع حكومة نتانياهو من العمل وكأن إرادة ترامب ناجزة دولياً ولاغية لأي قانون دولي يناقضها، فبدأت العمل للذهاب أبعد، وبالأخصّ لابتلاع القدس الشرقية حتى لا يعود أي مرجع عربي أو أجنبي يطالب باعتبارها “عاصمةً” لـ “الدولة الفلسطينية” المنشودة، إذا أُخذ بالحلّ القائم على أساس “الدولتين” المقبول دولياً لكن إجراءات زمرة المتطرّفين في حكومات نتانياهو قوّضته، أما ترامب فيستعد لمنع تداوله اميركياً في إطار “صفقة القرن”، فهو ضدّ الدولتين والدولة الواحدة، أي أنه ضدّ إقامة دولة فلسطينية وضدّ أن تكون لها عاصمة. لذلك يستبق سفيره ديفيد فريدمان “الصفقة” مانحاً “مشروعية” لا يملكها بل ملحّاً على ما يعتزمه نتانياهو من ضمٍّ لأجزاء من الضفة الغربية. وفي سياق التمهيد لهذا الضمّ جاء هدم المباني في حي صور باهر جنوب شرقي القدس.
حصل هذا الهدم في منطقة “باء” ذات الاشراف المزدوج، بإدارة مدنية فلسطينية وعسكرية إسرائيلية، وشكّل القشّة التي قصمت ظهر الاتفاقات بين الطرفين. إذ جرى البناء بموجب ترخيص فلسطيني، فيما نفّذ الهدم بقرار عسكري تبنّته المحكمة العليا الإسرائيلية مستندة الى ذريعة واهية هي أن المباني خطر أمني كونها قريبة من “جدار الفصل”. ثمة أجزاء أخرى من الجدار تمرّ بين منازل وأبنية لم تهدم. وكانت المحكمة ذاتها قضت برفض إقامة مستوطنات في أراضٍ هي ملكيات خاصة لأفراد فلسطينيين، لكنها هذه المرّة أصدرت حُكماً سياسياً بحتاً مع وضوح أن مباني صور باهر ملكيات خاصة، وبالتالي انتهكت أحد بنود الإعلان لحقوق الانسان. من العبث أساساً الاعتقاد بأن هذه المحكمة تأخذ بمعايير قانونية سليمة، فهي كانت وتبقى إحدى أدوات الاحتلال وتطبيقاته على الأرض.
هي حال ظلم متجذّر في العقل الإسرائيلي، يمارس أسوأ أنواع التجبّر الاستعماري على الفلسطينيين، ويبدو رئيس الولايات المتحدة في صدد مأسسة هذا الظلم وإدامته. لم يعد من المبالغة وصم ترامب بالتمييز العنصري، فهو أدخله في لغته اليومية واعتمده عنصراً اساسياً في استراتيجية الحملة لإعادة انتخابه، وهو خاض معركة شعواء للحصول على تمويل لجدار حدودي مع المكسيك في حين أن اميركا جعلت، عندما كانت عظمى، من هدم جدار برلين احدى أهم ركائز استراتيجيتها.
أما “جدار الفصل” الذي يواصل الإسرائيليون بناءه، وإن بهاجس أمني، فقد انكشف بكونه يعكس أولاً وأخيراً عقلية عنصرية صهيونية “ما بعد أبارتايدية”. لذلك يفكّر الفلسطينيون بالطلب من الأمم المتحدة إعادة النظر في قرار إلغاء اعتبار الصهيونية “ظاهرة عنصرية”، وكان هذا التصنيف رُفع في ظروف استدعت تحفيز إسرائيل على التعاون في “عملية السلام”، وقد انتج “تعاونها” الاتفاقات التي يُراد الآن وقف العمل بها. فمن حيث المبدأ وقّع الفلسطينيون على هذه الاتفاقات باعتبارها خطوة نحو “السلام”، لكن إسرائيل استخدمتها لترسيخ تبعية الفلسطينيين لسلطة الاحتلال، وبلغ عدم خشيتها من أن تُوصم مجدّداً بالعنصرية حدّ بناء الجدار وإصدار قانون “يهودية الدولة” والإقدام على إجراءات تمييزية تبرز وقاحة صهيونيتها. لطالما اعتبرت القوانين العنصرية ظاهرة مقيتة إلا أن ترامب ونتانياهو والعصابة المتوسّعة ماضون في جعل كل ما هو مقيت “ترنداً”، أي ميزةً.
ماذا يعني وقف العمل بالاتفاقات إذا كان الطرف الإسرائيلي يتجاهلها ولا يلتزمها؟ إذا لم تكن الخطوة الأولى سحب الاعتراف باسرائيل ووقف التنسيق الأمني فلن يبالي أحد بالقرار الفلسطيني، على رغم أن مصادر عدة تؤكّد أن “لا رجعة فيه”. وإذا شُرع بدايةً بوقف العمل بـ “اتفاق باريس” الاقتصادي فإن المجتمع الفلسطيني هو الذي سيعاني وسيصطف الاميركيون والإسرائيليون وغيرهم لتحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية. أما استثناء الاتفاق الذي سمح بإنشاء السلطة نفسها فلا يمنع إسرائيل من وقف العمل به، وربما تستغلّه لطرح البدائل التي تراها “مقبولةً” من جانبها. نعم كانت ولا تزال هناك حاجة الى صدمة سياسية في مسار “صفقة القرن” وتأكيد أن الفلسطينيين مصرّون على ثوابتهم (إنهاء الاحتلال واحترام “حق العودة للاجئين وإقامة دولة تكون القدس عاصمتها ووقف الاستيطان) وجدّيون في مقاومة أي مشروع لتصفية قضيتهم. غير أن أصحاب “الصفقة” بنوها واقعياً على أساس أن الاتفاقات نفسها المراد وقف العمل بها هي التي قادت الفلسطينيين وقضيتهم الى المنزلق الحالي، لذلك يقدّم جاريد كوشنير “الصفقة” كما لو أنها فرصة “انقاذية” للفلسطينيين.
هي ليست انقاذية في أي حال، بل تستغلّ رفضاً مزمناً ومكتوماً من دول الطوق العربية، كلّ لأسبابها، إقامة دولة فلسطينية. فهل أن العرب الذين اختزلوا موقفهم بـ “قبول ما يقبل به الفلسطينيون” يستطيعون الآن قبول رفض الفلسطينيين العمل بالاتفاقات مع إسرائيل، وهل يستطيعون منع أصحاب “صفقة القرن” من تجيير تبعات القرار الفلسطيني لمصلحة “الصفقة”. صحيح أن السلطة الفلسطينية حرصت دائماً على التصرف كـ “دولة” في صدد الإنشاء وتريد لها مكاناً على الخريطة، إلا أن الولايات المتحدة وإسرائيل اللتين تتجاوزان حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم تتصرّفان الآن كـ “جماعات غير دول”، كما توصف التنظيمات الإرهابية وعلى غرار ما تتهمان به إيران والميليشيات التي غزت بها أربع دول عربية.
وأخيراً تعي السلطة الفلسطينية أن فاعلية قرارها بالنسبة الى الاتفاقات مرتبطة بإنها الانقسام الفلسطيني. يُخشى أن تكون واهمة هنا أيضاً، ذاك أن حركة “حماس” لا يمكن بأي حال أن تنضوي في السلطة، كونها ذهبت بعيداً في إرساء “الإمارة” التي أنشأتها في غزّة وترى أنها بدأت تحقق طموح الاعتراف بها في سياق “صفقة القرن”. ولعل مراقبتها مأزق السلطة في اتفاقاتها مع اسرائيل وفي رهاناتها العربية تعزز اقتناعها بأنها كانت على صواب حين التزمت الخطّ الإيراني. ربما يقال عن حق أن “حماس” واهمة أيضاً، لكنها تراهن في أسوأ السيناريوات على أن إيران، حتى لو فاوضت الولايات المتحدة واتفقت معها، يمكن أن تبقى حريصة على حلفائها.