الاتفاق النووي صار نموذجاً. الأطراف المعنيون، خصوصاً الإيرانيين، يعدّونه مثالاً على قدرة الديبلوماسية وفاعليتها. وهو بلا شك أطلق دينامية نشطة تتمحور حول الأزمة السورية. الاتصالات واللقاءات تتكثف، كأن المنطقة تقترب من استحقاقات وتحولات تعيد جميع الأطراف المتصارعين إلى سكة الحوار والبحث عن تسويات. لكن هذا الحراك الذي سبق لقاءات الدوحة وتلاها لم يلجم أو يخفف من وطأة التصعيد العسكري. في سورية كما في اليمن. وحتى العراق الذي يواصل قتاله «الدولة الإسلامية» يقترب من حراك شعبي واسع. كأن «الربيع العربي» الذي يأبى الغياب عن بلاد الرافدين. فليس قليلاً هذه التظاهرات الشعبية في المحافظات الجنوبية التي ترفع شعار محاربة الفساد وتوفير الخدمات الأساسية وتحسينها… لم توفر أصوات كثيرة فيها إيران. طالبتها برفع يدها وإبعادها عن بغداد!
الحركة الديبلوماسية التي نشطت في الأسابيع الأخيرة، من السعودية إلى قطر وإيران وروسيا وسلطنة عمان فالأمم المتحدة والقرار الأخير لمجلس الأمن الرقم 2235، لم تنطلق من فراغ. سبقتها مقدمات ومواقف، على الصعيدين العسكري والسياسي. ولا بد من أن تفضي في نهاية المطاف إلى دفع جميع المعنيين بشؤون الإقليم وأزماته، إلى سكة الحوار بحثاً عن تسويات تعزز الحرب على الإرهاب وتوفر التغيير المطلوب، سواء في اليمن أو في سورية وحتى في العراق ولبنان. وهناك من لا يستثني من الحوار الأميركي – الروسي في هذا المجال قضية أوكرانيا أيضاً. كأن الجميع حريصون على صفقة شاملة.
من المبكر التنبوء بملامح هذه الصفقة. فمن الطبيعي أن يتمسك كل طرف من المعنيين بهذه الأزمات سواء في الداخل أو الخارج بموقفه المبدئي. لا تنازل عن سقف المطالب قبل ان تنضج الحلول ويستجيب الأطراف للشروط المتبادلة من هنا وهناك. وهي كثيرة محلية وإقليمية ودولية ترتبط بمصالح هؤلاء. ليست المرحلة رمادية إلى حد التعمية على بوادر ومؤشرات. فكسر كثير من المحرمات في بحث مواضيع ومشاريع وخطوات كانت محظورة أو خارج أوراق التفاوض والمساومة باتت على الطاولة. يكفي أن الذين كانوا يصرون منذ البداية على رفع شعار محاربة الإرهاب وحركات الجهاد في سورية قبل البحث في أي تسوية في جنيف أو خارجها، باتوا مقتنعين بأن الحشد الإقليمي والدولي المطلوب لدحر «الدولة الإسلامية» مثلاً لا يمكن أن يرى النور في بلاد الشام من دون تحريك السكة السياسية التي يجب أن تنتهي بالتغيير المنشود.
روسيا عبرت باكراً عن استعداد للتغيير المدروس. لم تتردد في تمرير القرار 2216 الخاص باليمن. وعلى رغم حرصها على العلاقات الثابتة مع إيران، سهلت تبني القرار الذي وفرت بنوده شرعية وتغطية دولية للتحالف العربي و «عاصفة الحزم». وهذا ما عزز التواصل المستمر بين الرياض وموسكو في القضايا الإقليمية الأخرى، خصوصاً الأزمة السورية. ويشي تطور الأحداث في اليمن أن التقدم العسكري الذي تحرزه قوات الشرعية لن يتوقف إلى أن يرضخ الحوثيون وشركاؤهم من فريق الرئيس السابق علي عبد الله صالح للقرارات الدولية التي تبنت صراحة المبادرة الخليجية ومقررات مؤتمر الحوار ودعتهم إلى تنفيذها والانسحاب من المناطق التي احتلوها بما فيها العاصمة وإعادة العتاد الى الثكن العسكرية للجيش الوطني. ويفترض بالضغط العسكري المتصاعد الذي تمارسه قوات التحالف والقوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي أن يقنع خصوم الشرعية بوجوب استجابة القرارات الدولية.
بالطبع إن السرعة والتهور اللذين تمدد بهما الحوثيون في السيطرة على مناطق شاسعة من اليمن، خصوصاً في المحافظات الجنوبية يدفعون ثمنهما اليوم. وتدفع إيران معهم ثمن هذا التهور والاندفاع غير المحسوب. أخطاء كثيرة وكبيرة ارتكبها هذا الفريق. من المغامرة في دخول العاصمة وتولي إدارات الدولة وشؤون الناس إلى التردد في إحالة استقالة الرئيس إلى مجلس النواب، إلى الاندفاع نحو الجنوب وعاصمته عدن. أخطاء لا تحصى يدفع ثمنها اليوم وسيدفع ثمنها. وستدفع طهران أيضاً قسطاً من هذا الثمن. كان عليها أن تصبط الحركة السياسية والعسكرية لحلفائها، بدل التهليل لانتصاراتهم التي لم تطل! تحرير عدن ومناطق جنوبية كثيرة ليس نهاية المطاف. تبقى تعز هي المحك أو المفصل. أهل الميادين العسكريون يدركون أن معركتها تختلف عن باقي المعارك الأخرى بما فيها معركة طرد الحوثيين وأنصارهم من العاصمة الجنوبية.
إن سقوط تعز سريعاً سيدفع قوات الرئيس هادي نحو العاصمة. ونتائج مثل هذا التطور ستعزز النقمة على الإنقلابيين حتى داخل صفوفهم التي بدأت تشهد تصدعات هنا وهناك. وثمة قوى عشائرية وقبلية وسياسية تقف مراقبة للأوضاع بانتظار أن تنحاز للفريق… المنتصر. إلا أن هذه الانجازات العسكرية التي يجنيها فريق الشرعية يجب أن توظف في تعجيل التسوية السياسية… قبل أن يكتفي أهل الجنوب بما حققوا، أي أن يكتفوا بـ «دولتهم» وإن لم يعترف بها المجتمع الدولي. والخشية في غياب تسوية إقليمية ترضي السعودية وشركاءها من جهة، ولا تغيب إيران وتحرم الحوثيين حصتهم من جهة أخرى، أن تنزلق المحافظات الجنوبية نحو حروب أهلية لن تتوقف مع معركة فاصلة لا بد منها مع «القاعدة» التي تحتل المكلا عاصمة حضرموت، بل تتجاوزها إلى حروب قبلية في منطقة كانت تقيم فيها 23 سلطنة قبل استقلالها عن بريطانيا في العام 1967. وحتى الشمال لن ينجو من ثارات في أوساط فريق الرئيس صالح القبلية والعسكرية والسياسية. وكذلك داخل صفوف الجماعة الحوثية وبيئتها الحاضنة. فالعناد والإصرار والمكابرة قد تدفع إلى خسران الجماعة ما انتزعت في مؤتمر الحوار.
ولا جدال اليوم في أن ثمة مصلحة للأطراف الإقليمية، خصوصاً السعودية وإيران، في وجوب استغلال التطورات العسكرية الأخيرة من أجل إبرام تسوية لن يكون فيها عبدالملك الحوثي وشريكه الرئيس صالح شريكين فيها. يستحيل بعد الذي حل باليمنيين أن يعود الرجلان إلى صدارة المشهد. والخوف أن يعاند الحوثيون ويغلبوا نظرتهم في دفع الجنوب إلى الاستقلال ليتفرغوا لتعزيز مواقعهم في الشمال والإفلات من العقاب أيضاً. بخلاف ما قد يراه فريق الرئيس السابق الذي تهمه المحافظة على مصالح بناها ورعاها في طول البلاد وعرضها لأكثر من ثلاثة عقود. فهل يفرض الضغط العسكري على اللاعبين الإقليميين، خصوصاً إيران، الذهاب نحو تسوية تقي اليمن الفوضى والتفتيت والتشرذم، فيتحول مصدر خطر على الجوار المباشر والبعيد؟
الإجابة عن السؤال هنا مرتبطة إلى حد كبير بما يجري في سورية أيضاً. ليس من باب المقايضة بقدر ما ربما شرط من شروط الصفقة الشاملة التي بات يفرض استعجالها التحدي الذي يشكله تنظيم «داعش». أفاد أطراف كثيرون من قيام «الدولة الإسلامية» من الولايات المتحدة إلى إيران مروراً بتركيا ودول عربية كثيرة. لكن هذا التوظيف بلغ غاياته القصوى. ولم يعد ممكناً المجازفة حيال الأخطار والتهديدات التي يرفعها «ابو بكر البغدادي» في وجه الجميع، ليس في المشرق العربي وحده بل في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وحتى أوروبا وروسيا… في جعبة التنظيم بنك أهداف لا ينضب ولا يتوقف عند حدود إرهابه الأخير في السعودية ودول مجلس التعاون أو في تونس وليبيا. ألا يكفي ما يقوله خصومه أن أعداده لا تتناقص في بلاد الشام بقدر ما تنتشر وتتزايد في شمال أفريقيا ووسطها وبات هاجساً للغرب والشرق معاً؟
ترجمة هذا الإجماع على وجوب توحيد الجهود الإقليمية والدولية لا يطرح سوى خيار وحيد هو البحث عن توافق سياسي. أي التوجه نحو تسوية شاملة أو صفقة. فتعب إيران في اليمن لا يقل عن تعبها في سورية حيث يكاد يغيب طيف المؤسسة العسكرية الرسمية التي يدير قادتها في أكثر من خمسين موقعاً عمليات عسكرية بالتوازي مع «تجارة حرب» تجعل كثيرين منهم عقبة لا مصلحة لهم في وقف المواجهات. صحيح أن للجمهورية الإسلامية يداً عليا في دمشق، ولكن تبقى لموسكو كلمة فصل وتظل الجمهورية الإسلامية في حاجة إلى روسيا سنداً دولياً كبيراً في قضاياها الحيوية. ولا يمكنها والحال هذه أن تسد الطريق أمام تحرك الكرملين. أو أن تتجاهل ما بدر منه أخيراً من إشارات ومواقف تفتح الأبواب التي ظلت مغلقة طوال السنوات الأربع الماضية. كما لا يمكنها تجاهل التحول التركي حيال الأزمة السورية سواء كان العنوان الأساس الكرد و «داعش» و… نظام الرئيس بشار الأسد. ولم يكن الموقف الروسي في قرار مجلس الأمن 2235 الذي يسلط «السيف الكيماوي» فوق رأس الأسد مثلما يسلطه فوق رأس «الدولة الإسلامية» أو الفصائل المتهمة باستخدام السلاح الكيماوي، الموقف الأخير. سبقه دفع المعارضة السورية إلى توحيد برنامجها السياسي، من «الائتلاف الوطني» إلى هيئة التنسيق. وقبل ذلك استياؤها من تصرف النظام حيال لقاءي موسكو مع المعارضة، ثم غياب أي تصور لدمشق من مستقبل الصراع أو مآل التسوية السياسية وشروطها. هذا في كفة وفي كفة أخرى لا تبعد موسكو أزمة أوكرانيا وما جرّت عليها من عقوبات اقتصادية عن سلة الصفقة.
الرئيس باراك أوباما رأى بعد تبني مجلس الأمن القرار 2235 أن نافذة فتحت قليلاً لإيجاد حل سياسي في سورية. وما الشروط التي قيل أن السعودية أبلغتها إلى سورية سوى تصور أو موقف من مواقف متعددة لجميع المعنيين من شروط التسوية التي لا بد أن تنتهي بطرح مصير النظام ورأسه على بساط البحث. وما على المستعجلين سوى الانتظار بعض الوقت للخروج من الأجواء الرمادية حتى تتوضح الصورة. في الطريق إلى ذلك يظل التصعيد العسكري آلة الضغط الضرورية في اللعبة السياسية، سواء في اليمن أو في بلاد الشام.