IMLebanon

عقوبة النزاهة

«وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبَت في مرادها الأجسامُ» المتنبي

عندما كنت تلميذاً في كلّية الطبّ كنتُ أحرص أن أجلس في الصفّ الأوّل أثناء الامتحانات، حتى لا تسوّل لي نفسي بأن أغشّ لأيّ سبب من الأسباب.

أثناء امتحان طبّ النفس، سادَ الهرج والمرج ورائي في القاعة، وكان واضحاً أنّ الرفاق «يتبادلون المعلومات» عن الامتحان، فيما كان البروفسور جالساً من دون أن يتكلم.

ذهبتُ إليه محتجّاً بأنّ الغشّ قائم تحت أنظاره، وهذا ممّا سيَرفع معدّل النجاح ويَعني أنّ بعضنا قد يَرسب حتى لو كانت علامتُه مقبولة. فأجاب البروفسور صاحب الشهرة في مجاله «لِماذا لا تغشّ إذاً مثل الباقين لتضمنَ نفسَك؟» فقلتُ له إنّني لا أريد أن أنجح إلّا بجدارة، فقال: «تريد أن تتمسّك إذاً بنزاهتِك، وهذا هو ثمنُ النزاهة، فلو كانت القضية من دون ثمن، لكانَ البشر جميعُهم نزَهاء!».

لا أظنّ أنّ سعد الحريري كان غافلاً عن هذا الدرس، فقد تعلّمه حتماً من والده. والدرس هنا هو أنّ إصرارَه على التمسّك بمنطق الاعتدال والبُعد عن الطائفية ليس من دون ثمن. لقد واجَه رفيق الحريري هذا الواقعَ منذ اليوم الأوّل لدخوله الحياة العامة، وبدل أن يطرح نفسَه أميرَ حرب جديد، فيُنشئ ميليشيا سنّية ويحجز لنفسِه مقعداً بالتساوي مع أمراء الحرب في لبنان، ذهب إلى الدرب المستحيل وهو صنعُ السلام.

وكان بإمكانه أن يحصر المساعدات التعليمية في مَن يوالونه، أو على الأقلّ في طائفته دون الآخرين، ولكنّه فتحَ الباب لكلّ مَن طرَقه من دون أن يحسبَ حساباً لمَن سيُواليه أو حتى سيَذكره بالخير يوماً، وأمثلة الجحود في هذا المجال أكثر بكثير من أمثلة العرفان.

مع ذلك لم يَسلم رفيق الحريري من سهام الاتّهام بالأَسلمة وسَلب حقوق الآخرين بالسلطة، وبقيَ الأمر على هذا المنوال حتى بَعد سنوات من استشهاده.

ومع ذلك فقد قاومَ كلّ الدعوات من الصديق والعدوّ ولم يقبل بأن يحصرَ اهتمامه بطائفته دون غيرها وبقيَ يتصرّف كرَجل دولة، غير آبهٍ بقواعد لعبة الزعامة في لبنان. لستُ أدري اليوم إنْ كانَ هذا الإصرار على عدمِ الانجرار في تيار المذهبية هو مِن أسباب اغتياله، ولستُ متأكّداً في الوقت ذاته من أنّه كان سينجو من قتلتِه لو كان قبِلَ أن يكون فقط أميراً على طائفته.

خلال الحملة الانتخابية عام 2005، بعد أشهرٍ قليلة من اغتيال رفيق الحريري، أشار لي زميلٌ مرشّح على الانتخابات في الشمال عن مقعدٍ مارونيّ بأنّه على تيّارنا أن يضع بعضَ النكهة الطائفية في الخطاب «لتجييش جماعتِكم!»، فقلت له إنّنا إذا فتَحنا هذا الباب اليوم فكيف سنُغلقه لاحقاً عندما سنتحدّث عن الوحدة الوطنية؟

سعد الحريري أراده حلفاؤه قبل خصومِه أن يتحوّل إلى أمير على طائفته، وأن يتركَ رعايا الطوائف الأخرى لأمرائهم، «كما يفعل «حزب الله» مع حلفائه!»، جملة سمعتُها مرّاتٍ ومرات من أصدقاء صادقين من أحزاب حليفة.

أمّا مِن أبناء طائفتنا فقد سمعتُ ما يلي «على سعد الحريري أن يكون أكثرَ سنّيةً وأقلَّ وطنية»، أو أنّ «سعد الحريري عليه أن يتكلّم بإسم طائفته مثلما يفعل الآخرون»، ومسائل مشابهة تتعلّق بالتسلّح والتطرّف وحماية أبناء الطائفة من القانون، طالما إنّه لا يطبّق على أتباع «حزب الله»، وإلى ما هنالك من جدليات طويلة وصلت أحياناً إلى حدّ الاتّهام بالردّة.

في أحد الأيام رنَّ الهاتف في منزلي وكان الرئيس الحريري يشرح لي عن مبادرة جديدة لحَلحلةِ الفراغ في سدّة الرئاسة، فسكتُّ للحظةٍ وقلت «ولكنْ…»، فأجاب «قبل أن تقول أيَّ شيء، أنا أعلم كم سأخسَر شعبياً من تلك المبادرة، وقد يخونني الأصدقاء ويَشمت بيَ الأخصام، لكنّ الوضع في لبنان ذاهبٌ إلى التآكل في كلّ المؤسسات، وقد نصل قريباً إلى الكارثة، والطرفُ الآخر ينتظر تلك اللحظة ليفرضَ شروطه لتغيير كلّ شيء.

أنا مستعدّ لأتحمّل كلَّ اللوم، وسيرى الناس لاحقاً أحقّيةَ ما أسعى إليه، لستُ أنا مَن يسعى إلى سَماع هتافات الناس بإسمي وأنا أذهب بهم إلى الكارثة».

لأنّ للنزاهة ثمناً…