تصدر نبأ مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان أول من أمس واجهة الأحداث، بعد سقوط طائرة الهليكوبتر التي كانت تقلهما من الحدود مع أذربيجان خلال العودة من تدشين أحد مشاريع السدود المائية بين البلدين. وضع الحدث الكبير المنطقة في حالة ترقب قد تمتد لأشهر لتبيان تداعياته سواء على مستوى إعادة تكوين السلطة في الداخل أو على المستوى الإقليمي. فالجمهورية الإسلامية التي شكّلت منذ تأسيسها، حالة إستثنائية على المستوى العقائدي وحالة صدامية على المستويين الأمني والسياسي في المنطقة برمّتها، والتي نسجت شبكة معقدة من العلاقات المذهبية المؤثرة والعابرة للدول أغرقت حادثة الطائرة بالأمس بسلسلة من المعطيات المتناقضة مما طرح جملة من التساؤلات التي قد لا تتوفر الإجابة عليها.
وبصرف النظر عن الرواية التي ستخرج بها طهران لإقناع مواطنيها أو تضعها بتصرف من يهمه الأمر لإقفال ملف التحقيق في هذه الحادثة، فإن كل ما يمكن أن يساق حول الظروف المناخية السيئة التي اعترضت مسير الطائرات أو العقوبات الأميركية التي حالت دون المحافظة على جاهزيتها لا يمكنه تبرير أبسط قواعد الحماية والأمان والإخلاء التي يجب أن تتوفر وأن يحاط بها أي انتقال لرئيس جمهورية، كما لا يمكن فهم أسباب متابعة الطائرتين المواكبتين لمسارهما بعد انقطاع الإتصال بطائرة الرئيس لتعود فرق الإنقاذ بعد ذلك للبحث عن موقع سقوط الطائرة وإخلاء الرئيس ووزير الخارجية، إلا إذا كان ما حصل للطائرة يستحيل معه التدخل، وبمعنى آخر أن الطائرة قد تعرضت لإنفجار في الجو مما استلزم الخروج من بقعة التهديد بأقصى سرعة ممكنة.
في المحصلة أضحى الرمزين المتشددين إبراهيم رئيسي وحسين أمير عبد اللهيان خارج دائرة السلطة وعُيّن «علي باقري كني» كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي والقريب من المرشد وزيراً للخارجية بدلاً من اللهيان. وبالتالي فإن خروج أو إخراج رئيسي من دائرة السلطة وهو المرشح الإنسيابي لخلافة المرشد علي خامنئي ليس استبعاداً لتيار سياسي أو إنقلاباً على معادلة السلطة القائمة، بل هو تغيير قدري أو قسري فرضته حادثة الطائرة الرئاسية ضمن التيار المتشدد نفسه.
فبالعودة الى نتائج الإستحقاقين الإنتخابيين اللذين شهدتهما إيران في مطلع مارس/آذار 2024، الإنتخابات البرلمانية لاختيار أعضاء مجلس الشورى الإسلامي «البرلمان» وإنتخابات أعضاء مجلس خبراء القيادة – ومهمته إنتخاب المرشد الأعلى للثورة وإقالته وفقاً للمادة 110 من الدستور – إستطاع المتشددون من التيار المحافظ إحكام سيطرتهم على مفاصل البرلمان الإيراني نتيجة للتنافس الأصولي- الأصولي بين قوائم المرشحين، بعد إبعاد مجلس صيانة الدستور مرشحي التيار الإصلاحي من المعترك الإنتخابي. هذا بالإضافة الى سيطرة المتشددين على المجلس الأعلى للأمن القومي – وهو الجهة المعنية بالنظر في سياسة إيران الخارجية – بعد استبعاد آخر الوجوه الإصلاحية في مفاصل النظام الإيراني وزير الدفاع الأسبق، الأميرال علي شمخاني واستبعاد الرئيس السابق روحاني من إنتخابات مجلس خبراء القيادة وعدم تجديد عضويته فيه.
تكتسب هذه الإنتخابات دلالاتها كونها الإستحقاق الأول بعد جملة من الإختبارات الحرجة والإخفاقات التي مرَّ بها الفريق المتشدد في النظام الإيراني، بدءاً من الإحتجاجات على خلفية مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني وسياسة القمع التي استخدمت، وتفاقم الوضع الإقتصادي الناجم عن العقوبات، بالإضافة الى العزلة الدولية التي يعيشها المجتمع الإيراني على خلفية انغماس طهران في الصراعات الإقليمية الذي يقودها الحرس الثوري والضربات الموجعة المتتالية التي يتلقاها في سوريا والعراق. هذا بالإضافة إلى تداعيات الإتفاق السعودي الإيراني الذي وقّع في مارس/آذار 2023 والذي قطع الطريق على كل انواع التعبئة المذهبية والسياسية المعتمدة من النظام لعقود خلت وسمحت للشباب الإيراني بالتعرف على النموذج الآخر التعددي والمنفتح.
لقد أدت كل تلك الإخفاقات إلى افتقاد المجتمع الإيراني الثقة بقدرة النظام القائم على الخروج من حالة الإنغلاق والعدائية التي فرضها على مواطنيه، وهو ما انعكس جليّاً على نسبة المشاركة الشعبية المنخفضة التي خرجت بها الإنتخابات الحالية حيث تراجعت نسبة التصويت في العاصمة طهران إلى 24%. لقد قدمت هذه الإنتخابات دلالات عديدة على ارتداد النظام نحو الداخل للإحتفاظ بالسلطة جراء عجزه عن إنتاج ديناميات جديدة بعد إنقضاء أكثر من أربعين عاماً على ولادة الجمهورية الإسلامية.
يقضي الترقب الذي فرضته حادثة سقوط الطائرة معاينة مرحلة ما بعد الرئيس ابراهيم رئيسي وإنتخاب رئيس جديد ومخاطر الذهاب إلى مزيد من الصراع بين المتشددين عنوانه تعثر الإستمرار في تصدير الثورة وتحوّلها الى صراع على السلطة في الداخل.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات