في ذاكرتنا أن الصين بعيدة. لكن ذلك كان قبل هبوب رياح العولمة وولادة «القرية الكونية». ولهذا فإن ما شهدته الصين الأسبوع الماضي يعنينا في اقتصادنا وأمننا لأنه يعني التوازنات الدولية والاقتصاد العالمي.
لم يكتفِ المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني بتجديد ولاية الرئيس شي جينبينغ لخمس سنوات إضافية. ذهب أبعد من ذلك بكثير. أدرج «فكر شي جينبينغ عن الاشتراكية بسمات صينية للعصر الجديد» في دستوره في خطوة لم يحصل عليها أسلافه الذين تعاقبوا بعد ماو إلا بعد تقاعدهم.
وإذا أخذنا في الاعتبار أننا نتحدث عن ثاني اقتصاد في العالم، وعن الدولة الأولى من حيث عدد السكان، فإن ولادة زعامة استثنائية هناك تعتبر حدثاً دولياً يعني الدول القريبة والبعيدة. صحيح أن الاقتصاد الأميركي لا يزال في الموقع الأول. وأن الجيش الأميركي هو الآلة العسكرية الأكثر قدرة وتطوراً. لكن الصحيح أيضاً أن النظام الأميركي لم يعد قادراً بطبيعته على إنتاج زعامات استثنائية ثابتة لا تهددها العواصف الوافدة من الصحف أو المواقع الإلكترونية. وإذا كان واضحاً أن روسيا تشهد بعد مائة عام على الثورة البلشفية ولادة قيصر جديد كما قالت «الإيكونوميست» في عددها الأخير، فإن الواضح أيضاً أن القيصر الجديد نجح في تحسين موقع بلاده في التوازنات الدولية أكثر مما نجح في تأهيل اقتصادها لتنافسٍ طويل الأمد.
والحقيقة هي أن شي مدين تماماً لدينغ سياو بينغ الذي سارع بعد غياب ماو إلى اتخاذ قرار كبير وصعب هو قرار الالتحاق بالعصر. كان دينغ أول من أعطى الإشارة إلى أن وصفات «الربان العظيم» لم تعد تصلح لعالم اليوم. اتخذ «الرفيق دينغ» قراراً حاسماً بعدم السماح لماو بأن يحكم الصين من ضريحه. أبقى للضريح جلاله ومهابته لكنه فتح النافذة وأحال إلى التقاعد كثيراً من وصفات «الكتاب الأحمر» التي لم تعد تصلح في عالم تغير. وهكذا بقي من ماو آلة حزبية تضم نحو 90 مليون عضو يعتبر الإمساك بها ضمانة استقرار، فيما بدأ تلامذة دينغ رحلة البحث عن الازدهار.
ولعب شي في السنوات الخمس الماضية دوراً بارزاً في ترسيخ صورة الصين الجديدة وتعزيز موقعها. لقد توقف العالم طويلاً أمام نجاح تلامذة دينغ في إخراج مئات ملايين الصينيين من دائرة الفقر. وهكذا بدا أن الأرقام جاءت لتعزز صدقية الأحلام. وفي الخارج تكفي الإشارة إلى مبادرات «طرق الحرير الجديدة» التي خصصت بكين لتمويلها 124 مليار دولار، بغرض تعزيز التبادل التجاري والنفاذ إلى أسواق جديدة.
في يناير (كانون الثاني) الماضي جاء شي إلى منتدى دافوس الاقتصادي، وألقى الرجل الجالس على عرش ماو خطاباً تضمن أبلغ دفاع عن العولمة وفوائدها ضمّنه انتقادات وتحذيرات من سياسات الحمائية والانغلاق. وقيل يومها إن المعني الأول بهذه الرسائل كان الرجل الذي دخل قبل أسابيع إلى البيت الأبيض وهو دونالد ترمب. سرق خليفة ماو الأضواء وبدا واضحاً أن العصر الصيني آتٍ مهما تأخر. وشعرت أنا الجالس في القاعة بالحزن والإحباط لشعوري أن العالم العربي لم يتخذ بعد قرار الانتماء إلى العصر.
شاءت المصادفة أن يتزامن اليوم الأخير من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني مع افتتاح أعمال مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» الذي عُقد في الرياض. ولا مبالغة في القول: إن ما جرى في مؤتمر الرياض غير مسبوق على الأرض العربية. لقد اجتمع تحت سقف واحد رجال يديرون 22 تريليون دولار من ثروة العالم. جاء عمالقة صناديق الثروة السيادية والصناديق الاستثمارية العالمية وعمالقة التكنولوجيا للمشاركة في حدث ما كان لينعقد في هذا المكان وهذا الزمان لولا اتخاذ قرارٍ لا عودة عنه بالانتماء إلى العصر.
والانتماء إلى العصر ليس قراراً سهلاً أو عابراً. إنه قرار بالتغيير والانفتاح والتعايش والشراكة. وهو يستلزم تغيير تشريعات وذهنيات وأدوات. ويستلزم وجود رؤية شاملة وخطط تنفيذية وقدرة على اجتذاب الشركاء للانخراط في ورشة لم تشهد المنطقة مثيلاً لها من قبل.
في قاعة المؤتمر راودتني أفكار كثيرة ربما لأنني صحافي من مدرسة اعتادت إعطاء الأولوية للبحث عن صاحب القرار السياسي. مدرسة كانت تهتم قبل كل شيء بجنرالات الحكم أو المعارضة. والحقيقة أن العالم قد تغير. بدا واضحاً أن القرار انتقل من الجنرالات القدامى إلى الجنرالات الجدد الذين يديرون مؤسسات مالية تفوق قدراتها قدرات دول. لا يملك الجنرالات القدامى حلاً للاقتصاد ولا يستطيعون تحسين مستوى حياة الناس إلا بإيجاد تفاهمات مع الجنرالات الجدد.
في أروقة مؤتمر الرياض التقيت ريتشارد برانسون صاحب مجموعة «فيرجين» التي تدير نحو 400 شركة. سألته عن مدى اهتمامه بالمؤتمر فقال: «خير تعبير عن اهتمامي هو أنني زرت السعودية ثلاث مرات في ثلاثة أشهر. أعتقد أن ما تشهده السعودية مثير للاهتمام. نوعية المشاركة في المؤتمر تُظهر اهتمام العالم برؤية 2030 والتحول الذي بدأنا نلمسه في السعودية. إن هذه التجربة ستشكل في حال نجاحها منارة بالنسبة إلى الدول الأخرى في المنطقة. لهذا أتطلع إلى المشاركة في مشروع نيوم، وهو مشروع هائل ومستقبلي».
وأضاف أن «ما يجري مهم جداً. ولي العهد السعودي يفكر في السعودية في مرحلة ما بعد النفط. يراهن على الجيل الشاب وطاقاته، وعلى اضطلاع المرأة السعودية بدور في تنمية الاقتصاد والمجتمع. يريد استقطاب الكفاءات السعودية ويريد استقطاب المستثمرين. إنه أمر بديع أن تجد رجلاً يتصف بالشجاعة وبُعد النظر. وفي الحقيقة أنا لم أشاهد مسؤولاً يعمل بمثل هذا القدر من التصميم على النجاح».
في أواخر السبعينات اتخذت الصين قرار فتح النوافذ للانتماء إلى العصر. الانتماء إلى هذه الثورات المتلاحقة في التكنولوجيا وسائر العلوم وتوظيفها في تحسين ظروف حياة الناس. وها هي الصين تقطف اليوم ثمار قرارها. وفي الرياض لمس المشاركون صدور قرار لا عودة عنه بالانتماء إلى العصر، وهو ما جعل جنرالات الاستثمار والتكنولوجيا يتوافدون للمشاركة في تجربة سيؤدي نجاحها إلى توفير نموذج جاذب في العالمين العربي والإسلامي.