نظرت القيادة السعودية إلى المنطقة فساورها قلق شديد. التقت زلازل «الربيع العربي» بنتائج الزلزال العراقي الذي اندلع قبل ثلاثة عشر عاماً. غابت القيادة الدولية للإقليم المضطرب. غسل باراك أوباما يديه تاركاً لدول المنطقة أن تنزع أشواكها بأيديها. ترك القيصر الروسي الوضع السوري يتفاقم ليحجز موقعاً لجيشه فوق بحيرة الدم.
نظرت القيادة السعودية فرأت هجوماً إرهابياً غير مسبوق. رأت أيضاً محاولة انقلاب إيرانية على التوازنات التاريخية في الإقليم. شعرت بمحاولة لتطويقها من جهات عدة. لم يكن أمامها غير ما فعلت. غادرت سياسة اعتبار الانتظار أفضل مستشار واتخذت قرار وقف الانهيار. يملأ العرب الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأميركي أو يملأه الآخرون.
الشرق الأوسط الوافد من الزلازل غابة. وفي الغابة تكون قوياً أو تكون الضحية. تكون لاعباً أو تتحول ملعباً. دورك مرهون بتوظيف قدراتك الاقتصادية. وامتلاك رؤية للخروج من دائرة الخطر. وقوة مسلحة وتحالفات سياسية وعسكرية، وديبلوماسية نشطة تسمي الأشياء بأسمائها. وإذا كان قرار وقف الانهيار يرمي إلى استعادة اللاعب العربي حقوقه ودوره يصبح طبيعياً أن تكون مصر المحطة الأولى في محاولة جعل قرار وقف الانهيار قراراً عربياً.
لا يحتاج المرء إلى الأرقام ليتأكد أن الوضع العربي كارثي على نحو غير مسبوق. دول ممزقة. وجيوش متصدعة. وإرهاب مستفحل. وميليشيات عابرة للحدود. لم يسبق أن تزامن اندلاع الحرائق على هذا النحو. عمليات انتحارية. وحروب أهلية. ونزاع مذهبي. وشيوع فاحش لنزعات القتل والاستئصال والإلغاء.
هكذا بدا القسم العربي من الشرق الأوسط متروكاً ومنكوباً. بدا مدفوعاً نحو عصر من الوحل والدم. ومن التفكك والفقر. وثمة من اعتبر أن الجزء العربي خسر فرصة الالتحاق بالعالم. وأن الخيار الوحيد أمامه هو المزيد من الاهتراء والانتقال من هاوية إلى هاوية.
ساد الاعتقاد أن قدَر الشق العربي من الشرق الأوسط أن يبقى مستباحاً. تسجل الأهداف على ملعبه. ووقود الحروب من دم أبنائه. سقط العراق. وسقطت سورية. وثمة من راهن على سقوط مصر. وثمة من راهن على تطويق السعودية وهز استقرارها وتعطيل دورها.
كان لا بد من اتخاذ قرار كبير وصعب. قرار وقف الانهيار. وكان لا بد أن يأتي هذا القرار من الرياض بالذات. انطلاقاً من احتفاظها بقرارها. وثقلها السياسي والاقتصادي. ورصيدها العربي والإسلامي. وكان لا بد لقرار بهذا الحجم أن يجمع الإرادة والإمكانات والوسائل.
أدركت القيادة السعودية منذ اللحظة الأولى الدور المحوري الذي لا بد أن تلعبه مصر في أي محاولة جدية لوقف الانهيار العربي. كان لا بد من مساعدة مصر. ولا بد من الارتقاء بالعلاقة معها من التعاطف الأخوي إلى بناء شراكة استراتيجية يمكن الانطلاق منها لمواجهة التحديات المحدقة بالأمن القومي العربي. شراكة ضد سرطان الإرهاب. وشراكة ضد التدخلات والاختراقات التي أدمت الدول العربية حتى ولو غاب التطابق في بعض الملفات.
تحت عنوان هذه الشراكة يمكن فهم أبعاد زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز لمصر. علاقات تؤسس لمصالح مشتركة بعيدة المدى. فالمصالح المشتركة هي الضمانة الفعلية لرسوخ العلاقات. وحوار جدي معمق يرمي إلى بلورة رؤية جامعة لما يجري في الإقليم وسبل استعادة الدور العربي فيه. علاقات العرب بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالقوى الإقليمية وسياساتها، خصوصاً إيران وتركيا. وعلاقات العرب بالقوى الدولية الفاعلة.
كانت زيارة الملك سلمان إلى مصر حافلة بالاتفاقات الاقتصادية والرسائل. الاستثمارات السعودية الضخمة في سيناء. قرار بناء الجسر. وزيارة الأزهر والتشديد على الوسطية وجبه الفكر المتطرف. واستقبال بابا الأقباط. ومخاطبة البرلمان. والحديث عن قوة عربية مشتركة لمواجهة الإرهاب الذي يدمي العواصم العربية والعالم.
وضعت الزيارة أساساً صلباً لشراكة استراتيجية بين بلدين يمتلك كل منهما عناصر قوة وتأثير في العالمين العربي والإسلامي. ما يأمله العربي هو أن تتحول العلاقة السعودية- المصرية قاطرة لاستعادة البلدان العربية المنكوبة بالإرهاب أو الحرب الأهلية أو الاختراقات، أمنها واستقرارها، وعلى قاعدة التوازن داخل الخرائط أو على مستوى الإقليم. إن تحول قرار وقف الانهيار سياسةً سعودية- مصرية واضحة ونشطة لا بد أن يترك أثره في سياستي موسكو وواشنطن وفي الملفات اليمنية والسورية والعراقية.