العلم الروسي في مواكب التيار العوني المتجهة الى محيط قصر بعبدا الشاغر هو مشهد بالفعل طريف. مؤشر لمتاهات «سياسات الهوية».
اولاً لأنه يرث جملة أعلام عربية وأجنبية حملها العونيون منذ ربع قرن الى اليوم، الى جانب العلم اللبناني، ثم الى جانب العلم اللبناني والراية البرتقالية. فهم حملوا تباعاً العلمين الفرنسي والعراقي في أيام الحشود لحماية «قصر الشعب»، ثم العلم الأميركي وقت «قانون محاسبة سوريا»، ثم العلمين السوري والايراني. والآن علم روسيا الاتحادية، وصور الرئيس فلاديمير بوتين.
مفهوم التيار البرتقالي عن «الشراكة» يعكّز على طائرة السوخوي. الطائرة نفسها التي اعطى لها الأميركيون الضوء الأخضر لقصفها محيط القصر الجمهوري ووزارة الدفاع والمتنين صبيحة الاجتياح السوري للمتنين.
ثانياً لأنّ حمل أعلام الدول الأجنبية عادة تفشت في القرن التاسع عشر العثماني، سواء في جبل لبنان أو في غيره من البقع الملتهبة في مرحلة التفكك البطيء للسلطنة. العونيون بذلك يرثون عادة عرفها الجبل قبل قرن ونصف. حمل أعلام الدول كان مرتبطاً بحماياتها للملل. الموارنة والعلم الفرنسي. الروم الأرثوذكس والعلم الروسي. الدروز والعلم البريطاني. الروم الكاثوليك والعلم النمساوي.
مفارقة إذاً أنْ يرفع تيار يعتبر نفسه الأقوى في الموارنة «علم الروم»، وتدبّ فيه روح الانتماء الى الأرثوذكسية السلافية، و»أمّنا روسيا». كانت تنقصها صور القيصر نقولا الثاني وجوزيف ستالين لتكتمل.
طبعاً، حمل العلم الروسي هو من باب الانفعالية العونية في السياسة. يحمل العلم نكاية. العماد ميشال عون محترف سياسة بما فيه الكفاية ليدرك أنّ لا شيء يجنيه من «أمنا روسيا» باستثناء تمديدها لنظام الاحتضار الدموي الأسدي. لا فلاديمير بوتين قادر على اعادة عون الى قصر بعبدا، ولا روسيا قادرة على ان تحسّن مرتبتها في قائمة الدول العربية والأجنبية الأكثر تأثيراً على مسارات الداخل اللبناني. ليست بين أول خمس دول، لا في الزمن السوفياتي ولا اليوم. لا يقارن أقصى دور يمكن أن تلعبه مع ما لأميركا، وفرنسا، والعراق في وقت عابر، وسوريا لعقود، وايران بواسطة امدادها لحزب لبناني مسلح كبير، اي البلدان التي رفع العونيون اعلامها تباعا الى جانب العلم اللبناني والبرتقالي. الدور الروسي في لبنان لا يزيد كثيراً عن الدور الصيني في لبنان.
يراد بحمل العلم الروسي شكر موسكو على أنها بيزنطية الجديدة، وحامية الأقليات المسيحية. لا بأس. يبقى انه ليس قليلاً أن لا يجد تيار يعتبر نفسه الاقوى مارونياً أن تجذير سياسة الهوية خاصته يكون بالانضمام الرمزي الى «الأرثوذكسية»، وفي غربة واضحة عن أي كاثوليكية نضالية. وطبعاً، في زمن تطرح الكاثوليكية الحركية نفسها كقوة ضاغطة من أجل الانقاذ البيئي الاجتماعي لكوكب الأرض من خلال رسالة البابا فرنسيس الاول بهذا الشأن، ثم كلمته في الأمم المتحدة، وموقفه اللافت من قضية اللاجئين، فإنّ ذهنية «تحالف الأقليات» وبعد أن ساقت المسيحيين وراء الانفعال بالانقسام المذهبي السني – الشيعي، عادت ودفعت التيار الذي يعتبره الأكبر داخل أكبر تجمع كاثوليكي في الشرق الأوسط، الموارنة، الى رفع علم روسيا. هذا في وقت دلت فيه مشاكل ما بعد الحرب الباردة، ان التصادم الكاثوليكي – الأرثوذكسي لم يُطوَ كليا، وبالأخص في المد والجزر بين موسكو والبلدان الواقعة غربها، من بولندا حتى كرواتيا، وصولاً الى النسبة الكاثوليكية المرتفعة غرب اوكرانيا، والتي تمثل احد موارد السلبية القومية الاوكرانية تجاه موسكو والشرق الاوكراني. جيد جداً ان لا يكون الموارنة متأثرين بمناطق التوتر الكاثوليكي – الارثوذكسي في شرق ووسط اوروبا. ومفهوم جداً ان يكون الموارنة يشعرون بالخيبة من الغربين الكاثوليكي والبروتستانتي. لكن رفع العلم الروسي، مباشرة بعد التدخل الجوي الروسي في سوريا واتشاحه بدعائية «الحرب المقدسة»، وفي وقت لا تأثير روسياً كبيراً فيه على الشغور الرئاسي وغيره من ملفات، ولا يقام فيه اعتبار لتوجهات البابا فرنسيس، كل هذا يطرح سؤالين في وقت واحد: أين الشعور الكاثوليكي عند الموارنة؟ وأين الموارنة؟
في وقت يبدع فيه البابا فرنسيس، هناك من يصر على تجيير أكبر تجمع كاثوليكي في الشرق لفلاديمير بوتين. «مش قليل!»