ليس أمراً عابراً أن تكشف القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي أن «هزيمة داعش» في مواجهة حزب الله والجيشين اللبناني والسوري، «… تقلق صناع القرارات في تل أبيب، بالتأكيد». إذ لا يخرج هذا الكشف عن إطار المقاربة الإسرائيلية التي حدد معالمها بنيامين نتنياهو، إزاء المعارك التي تستهدف اقتلاع هذا التنظيم. والأمر نفسه ينسحب على المبررات التي أوردتها القناة، أيضاً، في تفسير قلق صناع القرار السياسي والأمني.
إذ أوضحت بأن هذه الهزيمة ستؤدي ــــ من منظور إسرائيلي ــــ الى سيطرة أطراف محور المقاومة، وبحسب التعابير التي استخدمتها القناة «من الواضح للجميع بأن هزيمة داعش معناها تمركز إيران والحرس الثوري وحزب الله في المناطق التي يخرج منها داعش…». لكن بعيداً عن السيناريو الذي تخيلته القناة لمرحلة ما بعد إنهاء سيطرة داعش، فهي تكشف عن قلق عميق في تل أبيب من التكامل بين الجيش اللبناني والمقاومة، في إطار الثلاثية التي تشكل عنوان الاستراتيجية الدفاعية للبنان: الجيش والشعب والمقاومة.
يتطابق القلق الذي كشفت عنه القناة العاشرة، لدى صناع القرار الإسرائيلي، وخلفياته، مع موقف نتنياهو المعلن من «داعش» والذي لم يتركه ضبابياً، بل روَّج له، وساجل على أساسه القيادات في واشنطن وبقية الدول الأوروبية. وأكد في أكثر من مناسبة تمسكه به، استناداً الى تقدير تعمد تكراره في مناسبات متعددة خلال السنوات الماضية، ومفاده أن القضاء على داعش هو «انتصار في المعركة وخسارة في الحرب».
وما لا يقل أهمية أن موقف نتنياهو في الرهان على الدور الذي يؤديه «داعش»، لم يكن وليدة ظروف استجدت في الأشهر الأخيرة، بل هو خيار انتهجه منذ الأشهر الأولى لتمدد «داعش» في العراق، وبادر الى الكشف عن الرهان الإسرائيلي على هذا التنظيم بعد تمدده في العراق عام 2014، خلال مقابلة مع شبكة «ن. بي. سي.» الأميركية، لجهة دوره في إضعاف محور المقاومة. وبرر ذلك في حينه بالتمسك بمبدأ أنه «إذا اقتتل عدواك… عليك إضعاف كليهما».
لكن نتيجة إدراكه أن خيار الإبقاء على «داعش»، والرهان عليه، ينطوي على أثمان جانبية ــــ بدأ العالم الغربي، وأطراف إقليمية، يتلمسون بعض نتائجه ــــ دعا في حينه الى «كبح داعش»، لكنه وضع لذلك ضابطة بأن «لا يؤدي ذلك الى السماح لإيران بالسيطرة على العراق كما يحصل في سوريا ولبنان» (هآرتس/ 25/6/2014).
أما الآن، فقد انتقل نتنياهو الى مرحلة رفع الصوت محذراً من مفاعيل خيار القضاء على سيطرة داعش. وبرز ذلك خلال كلمة له في مدينة أشدود، مستعيناً بتقدير الموساد الذي قدمه أمام وزراء الحكومة، معلناً: «لقد سمعنا في الحكومة عرضاً من رئيس الموساد، تناول التحديات الأمنية التي نواجهها. وألخّصها بجملة بسيطة: عندما تخرج داعش تدخل إيران» (13/8/2017).
في ضوء ذلك، تتضح حقيقة مهمة وهي أن الحديث عن مصلحة إسرائيلية ببقاء «داعش»، وتحديداً بهدف ضرب محور المقاومة، ليس كلاماً منقولاً عن لسان مصادر مجهولة أو مطلعة، تنسب هذا الموقف الى نتنياهو، ولا نتيجة تحليل (وهو صحيح) يؤكد بناءً على معطيات صلبة أن تبلور حالة «داعش» كان مطلباً ومصلحة إسرائيلية، كونها تؤدي دوراً وظيفياً في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية العامة. بل هي مواقف رسمية موثقة بالصوت والصورة، أدلى بها نتنياهو أمام الكاميرات، وأيضاً هي مواقف رسمية تواترت على نقلها كل الصحف الإسرائيلية. ولا يغير من هذه الحقائق كون نتنياهو يغلف مواقفه بوصف تنظيم «داعش» بالإرهابي، أو إدانته للجرائم التي يرتكبها في أوروبا والعالم… وخاصة أن نتنياهو يرى أن بقاء داعش يؤدي دوراً وظيفياً في مواجهة حزب الله وحلفائه في المنطقة، كونهم يحتلون رأس التهديدات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل.
هذا الإطار الحاكم للمقاربة الإسرائيلية إزاء تنظيم «داعش»، والذي حدده نتنياهو بنفسه في أكثر من مناسبة، ينسحب على كل الساحات التي يتحرك فيها هذا التنظيم الإرهابي. لذلك قد لا نحتاج الى «استجواب» نتنياهو لاكتشاف حقيقة موقفه من العمليات العسكرية التي يشنها الجيشان اللبناني والسوري الى جانب حزب الله، بهدف تحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلة من الجماعات الإرهابية.
مع ذلك، ينبغي التأكيد على حقيقة أن ما ينطبق على «داعش»، ينطبق بالأولى على «النصرة» وما شابهها من فصائل، وخاصة أن نتنياهو لا يجد ما يمنعه من «خوض حملة دبلوماسية» على خط واشنطن، تهدف الى إقناعها من ناحية عملية بـ«احتواء هذا التنظيم بدلاً من القضاء على سيطرته»، انطلاقاً من مفهوم مفاده أن بإمكان «داعش» تأدية دوره الوظيفي مع أقل قدر ممكن من الأضرار الجانبية. وعلى ذلك، الأولى أن تحظى بالحماية الدبلوماسية الإسرائيلية، الجماعات الإرهابية الأخرى الأكثر انضباطاً بالحدود والضوابط الأميركية.
وهكذا، يمكن الاستعانة بالمفاهيم التي روج لها نتنياهو، في الدعوة إلى الإبقاء على سيطرة داعش، بهدف استقراء موقفه من المعركة التي يخوضها الجيشان اللبناني والسوري، ومعهما حزب الله، بهدف تحرير الجرود. فقد اعتبر رئيس وزراء العدو أن من مبررات الإبقاء على «داعش» إضعاف محور المقاومة. وبالتالي، يعني اقتلاع هذا التنظيم الإرهابي من الجرود، بالمعايير الإسرائيلية، سقوط الرهان على هذا الدور في لبنان. وينسحب هذا الفشل أيضاً، بفعل هزيمة «داعش» في الجرود، على سقوط الرهان عليهم كقوة إشغال كان يمكن لإسرائيل أن تستغلها لاحقاً في مواجهة حزب الله.
في السياق نفسه، يأتي المفهوم الذي أعلنه نتنياهو قبل أيام عن أن البديل من سيطرة «داعش»، هو سيطرة محور المقاومة أي «خروج داعش ودخول إيران». واستناداً الى هذا المعيار، يكمن الفشل الإسرائيلي، من هذه الزاوية، في كون اجتثاث «داعش» يعبّد الطريق أمام تنظيف الجبهة الخلفية للمقاومة في لبنان، وخاصة عندما يكون البديل منها تكامل عملاني بينها وبين الجيش اللبناني في الساحة اللبنانية، في مواجهة التهديدين الإرهابي والصهيوني.
وهكذا تتجلى النتيجة التي توقعها نتنياهو، في أكثر من مناسبة، بأن القضاء على داعش، في ظل تعاظم محور المقاومة، يعني «انتصار في المعركة وخسارة في الحرب». فهي تعني من منظور إسرائيلي انتصاراً على تنظيم إرهابي يشكل تهديداً تكتيكياً على المعسكر الغربي، لكنه يشكل تهديداً استراتيجياً بالنسبة إلى محور المقاومة. وفي المقابل، فإن اجتثاث هذا التهديد سيكون خسارة في الحرب التي تشنها إسرائيل وبقية أطراف المعسكر الغربي على محور المقاومة، باعتبار أن هذا التنظيم يشكل إحدى أهم الأوراق التي يتم استخدامها.
في ضوء ما تقدم، يصبح من السهولة استقراء الموقف الإسرائيلي من أي معركة مع التنظيمات الإرهابية، بما فيها معركة تحرير الجرود من «النصرة» بداية، والآن من «داعش»، بما سبق أن أعلنه نتنياهو نفسه أنه كان ينبغي كبح هذه الجماعات بما يخفف من أضرارها الجانبية والتكتيكية على المعسكر الغربي، وفي الوقت نفسه الإبقاء على وجودها وتعزيز قوتها بما يسمح باستمرارها في إشغال واستنزاف المقاومة في لبنان، والحؤول دون استراحة جبهتها الخلفية. من هنا، لم يعد كلاماً إنشائياً وصف المعركة التي تشهدها الجرود بأنها في الواقع ضد مواقع متقدمة لكيان العدو تحاول الالتفاف على المقاومة من جبهتها الداخلية.