من مسلمات العلوم السياسية والدستورية أن وضع النظرية يبدأ بدراسة الظاهرة السياسية ومراقبة الوقائع، ثمَّ صياغة الفرضيات التي تخضع للاختبار والتدقيق، وعلى أثر هذه النتائج يجري صياغة النظرية.
فهل أصبحنا أمام نظرية أن الدفاع عن السيادة مسؤولية القوى الشعبية؟
الثابتة التي ننطلق منها والمكرَّسة في متن الدساتير أن السيادة هي للشعب يمارسها عبر المؤسسات الدستورية، وأن هذه المؤسسات إنما تمارس السيادة ولكنها لا تمتلكها لأن من يملك السيادة هو الشعب وفق صريح النص، ومن هنا، بدا واضحاً أن لا وجود لأي تناقض بين بسط سيادة الدولة والدفاع عن السيادة، فإذا لم يكن للقوى النظامية القدرة على الدفاع عن السيادة، هنا من واجب الشعب، صاحب السيادة أن يتصدَّى لواجب الدفاع عن هذه السيادة.
ونرى بأن الواقع قد دعم هذه الوجهة، حيث وقفت الشعوب إلى جانب القوى النظامية بل تقدّمتها في بعض الأحيان في الدفاع عن السيادة: كالدفاع الشعبي في سوريا، واللجان الشعبية في اليمن، والحرس الثوري والتعبئة في إيران، الفصائل الفلسطينية واللجان الشعبية في فلسطين، الحشد الشعبي في العراق، المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان.
هي تجارب حديثة معاصرة، ومدعومة طبعاً بعشرات التجارب الناجحة في الماضي أثبتت خلالها الشعوب قدرتها في الدفاع عن السيادة. وإن تشكيل هذه القوى الشعبية يدخلها فوراً في تشكيلات القوى الشرعية الأخرى من دون حاجة لوجود نصٍ خاص في التشريع، فمشروعية هذه القوى مستمد من طبيعتها لا من النص القانوني. بل تتغلَّب شرعية هذه القوى على شرعية من تخلَّى عن واجب الدفاع عن السيادة.
لذا يمكن أن نستخلص فرضية بأن ممارسة السيادة مغايرة للدفاع عن السيادة، إذ أن ممارسة السيادة محصورة حكماً بالسلطات الدستورية التي اختارها الشعب، أما الدفاع عن السيادة فهو من الواجبات الأكثر إلزاماً للدولة وهو منوط مبدئياً بالقوى العسكرية الرسمية لكن إذا حالت معطيات واقعية أو ميدانية من دون تدخل القوى العسكرية الرسمية فلا تبقى السيادة بمهب الاعتداءات بل تناط هذه المهمة بالشعب وقواه الحية؟
ومن هذه الفرضية المدعومة بالتجربة فإن الدفاع عن السيادة مسؤولية القوى الشعبية التي لا تستطيع التخلي عنها، وحيث أن جهة تكون مسؤولة عن السيادة فلا يمكن اعتبار وجودها غير شرعي، بل من البديهي أن تكون شرعيتها موازية لشرعية اي جهازٍ رسميٍ في الدولة.
وإذ أحسنت دولة العراق في إقرار قانون الحشد الشعبي وذلك بغاية تأمين ضمانات اجتماعية ومالية للمنضوين، فإن المشترع اللبناني كان سبّاقاً في ذلك حيث أقرّ بحقوق القوى الشعبية المؤازرة للجيش (قانون 24/5/1957 إنشاء وحدات من القوى المساعدة، والقانون رقم 1 تاريخ 2/1/1969 إنشاء وحدات الأنصار في الجيش). وهذه القوانين هي ذات مفعولٍ إعلاني يكشف عن حقيقة ثابتة لا تحتاج إلى الدليل، بل إن هذه القوى الشعبية هي مصدر قوّة للدولة وركيزة أساسية في سياساتها الدفاعية أو الخارجية، ولهذا فإن من المنطق أن تحضن الدولة القوية وتحمي قواها الشعبية، وهذه مقولة الشهيد رفيق الحريري في كلمة له حول الدولة القوية منشورة في مجلة الإدارة اللبنانية العدد الثالث خريف 1998 ص5 ، حيث عرّف الدولة القوية بأنها الدولة التي تحمي المقاومة وترعاها.
(]) أستاذ في الجامعة اللبنانية