عاجلاً أم آجلاً ستتحرّر الحديدة من الحوثيين (أنصار الله). ليست سيطرة القوات التي تعمل تحت راية الشرعية على جزء من مطار المدينة سوى خطوة أخرى على طريق استعادة المدينة والميناء الاستراتيجي على البحر الأحمر. هذا الميناء الذي يستميت الحوثيون في الدفاع عنه متجاهلين أنّهم أصبحوا جسماً غريباً، أينما حلّوا، حتّى داخل صنعاء نفسها. يعود الفضل في وجودهم في صنعاء إلى ما يُسمّى «قبائل الطوق» التي استثمروا فيها طويلاً. هذه قبائل مستعدة لتغيير مواقفها عندما تجد ذلك مناسباً لها، خصوصاً أنّها من النوع الذي يُمكن استئجاره وليس شراءه. متى ينتهي عقد الإيجار بين الحوثيين وهذه القبائل؟ كل شيء يعتمد على الأموال التي في حوزة «أنصار الله» أو الجهات التي تدعمهم هذه الأيّام. وهذا لا ينطبق على الجانب الإيراني وحده، بل على قوى عربية لديها حسابات تريد تصفيتها مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية تحديداً. تدعم هذه القوى هذه القبائل كي تبقى على ولائها للحوثيين، حتّى لو كان ذلك ولاء بالإيجار ليس إلّا!
مكّن هذا الاستثمار الناجح في قبائل الطوق الحوثيين من السيطرة على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2014 بعدما رفض الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي سماع نصيحة علي عبدالله صالح التصدي لهم في محافظة عمران، أي قبل وصولهم إلى مشارف العاصمة. دفع علي عبدالله صالح نفسه في مرحلة لاحقة، في الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) 2017 ثمن دخول الحوثيين صنعاء. واجههم بشجاعة نادرة مع مجموعة قليلة من حراسه بعدما اتخذوا قراراً باغتياله إثر استنفاد الغرض من التحالف الشكلي والموقت الذي أقاموه معه.
ليس هناك، في الوقت الراهن، من هو في عجلة من أمره في دخول مدينة الحديدة والميناء ما دام كلّ شيء يسير حسب الخطة المرسومة. تقضي الخطة المرسومة بتوجيه ضربات متتالية إلى المشروع الإيراني في اليمن، وصولاً إلى محاصرته كلّياً تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية في صنعاء.
تكمن أهمّية الحديدة في أنّ الميناء يؤمن لـ«أنصار الله» موارد مالية كبيرة، عن طريق الخوات والضرائب التي يفرضونها على كلّ ما يمرّ في الميناء ويأتي عبره. كذلك، إن ميناء الحديدة الذي يستخدمه الحوثيون لتهديد الملاحة في البحر الأحمر، هو المكان الذي تأتي منه الأسلحة التي مصدرها إيران، بما في ذلك الصواريخ الباليستية التي تُطلق في اتجاه الأراضي السعودية. الأهمّ من ذلك كلّه، أن الحديدة هو آخر منفذ بحري أساسي للحوثيين. ستبقى لدى هؤلاء من دون شكّ بعض المنافذ الصغيرة التي تستطيع استقبال قوارب تنقل أسلحة خفيفة مهرّبة لا قيمة تُذكر لها. كذلك، ستبقى لديهم طرق برّية لتمرير أسلحة خفيفة وذخائر، لكنّ لا شيء سيعوّض خسارتهم الحديدة.
مَن يعتقد أن الحديدة لن يُستعاد، عليه أن يتذكر أنّ ميناء عدن كان في يد الحوثيين أيضاً، كذلك ميناء المخا الذي يتحكّم بمضيق باب المندب. استعيد الميناءان، كما استعيد ميناء المكلا. هناك قوى جدّية تقاتل على الأرض، هي لواء العمالقة ومجموعات بقيادة هيثم قاسم طاهر، وزير الدفاع السابق. انضمت إلى هذه القوى مجموعات من «حراس الجمهورية» بقيادة العميد طارق محمّد عبدالله صالح ابن شقيق علي عبدالله صالح. يقاتل طارق محمد عبدالله صالح، على الرغم من وجود أخيه محمّد محمّد عبدالله صالح ونجله عفاش أسيرين لدى الحوثيين. كذلك، لا يزال هؤلاء يحتجزون في صنعاء إثنين من أبناء علي عبدالله صالح هما صلاح ومدين وعدداً من أفراد العائلة.
في النهاية، كان القرار القاضي بمنع سقوط اليمن في يد إيران قراراً جدياً اتخذه التحالف العربي الذي شنّ «عاصفة الحزم» في آذار (مارس) 2015. حققت «عاصفة الحزم» القسم الأكبر من أهدافها وستحقّق القسم الباقي قريباً، خصوصاً إذا أمكن تفادي أخطاء ارتكبت بين حين وآخر. لا تقتصر هذه الأخطاء على قصف أهداف مدنية عن طريق الخطأ فحسب، بل على عدم فعالية ما يسمّى «الشرعية» أيضاً. فالمستغرب أن التقدم العسكري الذي تحقّق على طول الساحل اليمني، والذي سيُستكمل بتحرير الحديدة، لم يرافقه تقدّم برّي يُذكر في اتجاه صنعاء انطلاقاً من نهم ومأرب. إضافة إلى ذلك، إن الوضع في تعز لا يزال يراوح مكانه منذ فترة طويلة. هل المشكلة في «الشرعية» التي على رأسها عبد ربه منصور هادي فقط.. أم هناك مشكلة في مكان آخر مرتبطة بحزب الإصلاح، أي بالإخوان المسلمين والحسابات الخاصة بهم وكيفية تحريك القوات التابعة لهؤلاء؟
في كلّ الأحوال، لا يعني التريث في حسم معركة الحديدة أي ضعف لدى القوات التي تتولى أمر هذه المعركة. كلّ ما هناك أنّه توجد رغبة في التمهل والتريث تفادياً لسقوط خسائر كبيرة لدى المهاجمين وفي صفوف السكّان المدنيين. ساعة الحسم تقترب، لكنها لن تكون غداً أو بعده. يستطيع المهاجمون الانتظار، خصوصاً أنّ الطفل في اليمن يعرف أنّ الحديدة ليست بيئة حاضنة للحوثيين. لكنّ أهل الحديدة المعروفون بأنّهم مسالمون لن يمارسوا أيّ مقاومة مسلّحة في انتظار مزيد من التقدّم للقوات التي تعمل تحت راية «الشرعية».
إذا كانت «عاصفة الحزم» أظهرت شيئاً، فهي أظهرت أن هناك قوى عربية مستعدة لخوض معركة طويلة في مواجهة الخطر الإيراني الذي يجسّده مشروع توسّعي من بين ضحاياه العراق وسوريا ولبنان. سعى هذا المشروع إلى تدمير البحرين. إضافة إلى ذلك، أراد هذا المشروع التمدد في مصر أيّام كان محمد مرسي رئيساً، كما لم يعد خافياً أن المغرب وضع له حدّاً نهائياً عندما وصل به الأمر إلى الدخول على خطّ المسّ بالسيادة على الصحراء المغربية.
ليست معركة الحديدة سوى خطوة أخرى مهمّة في طريق طويل اسمه التصدّي لمشروع يقوم على مبدأ تفتيت العالم العربي عن طريق إثارة الغرائز المذهبية. كان السؤال دائماً هل من سيتصدى لهذا المشروع أم لا؟ الجواب نعم كبيرة يؤكدها ما يدور حالياً في الحديدة التي سيكون استعادة ميناءها ومطارها والمدينة نفسها نقطة تحوّل ليس على الصعيد اليمني فحسب، بل على الصعيد الإقليمي أيضاً.