مفاوضات الناقورة ستشق درب السلام مع إسرائيل من البوابة الاقتصادية
يُفترض أن يكون «حزب الله» ومن خلفه إيران يُمسكان بقوّة بورقة ترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية في إطار المواجهة الأميركية – الإيرانية المحتدمة في المنطقة. لكن على بعد نحو شهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، يخرج رئيس مجلس النواب نبيه بري أحد قطبي «الثنائي الشيعي» ليُعلن رسمياً التوصل إلى اتفاق – إطار للتفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية والبرية، ويتبعه مساعد وزير الخارجية دايفيد شنكر بتحديد موعد انطلاق المفاوضات في 14 تشرين الحالي.
سيُضفي مشهد اللقاء في الناقورة بين ممثلي لبنان وإسرائيل بضيافة الأمم المتحدة وإدارة الولايات المتحدة أمام عدسات الإعلام الأميركي والغربي والعربي حالة من الزهو لدى «البيت الأبيض»، لنجاح إدارة دونالد ترامب في الإتيان باللبنانيين والإسرائيليين إلى طاولة لترسيم الحدود، على الساعة الأميركية. ولا يمكن لبري أن يكون قد حدّد توقيت الإعلان عن الاتفاق وموعد بدء المفاوضات من دون التشاور والتنسيق مع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، بل بالأحرى موافقته.
على أن مجرى الأمور في لعبة عضّ الأصابع الدائرة بين واشنطن وطهران، وقرار إيران وأذرعها بعدم الإسهام بمنح المرشح ترامب هدايا انتخابية قبل الاستحقاق الرئاسي يمكن أن يوظفها لصالحه أمام منافسه الديموقراطي جو بايدن، يطرحان تساؤلاً مشروعاً عن التوقيت الذي يأتي بعد التطبيع الإماراتي – البحريني مع إسرائيل ليضيف انتصاراً جديداً للدبلوماسية الأميركية، بما يجعل لبنان الدولة الجديدة الذاهبة إلى بدء التفاوض مع إسرائيل لترتيب مسألة الحدود البحرية المفتوحة على ترتيب وترسيم المصالح الاقتصادية بين البلدين، بعدما بات واضحاً أنه رغم إتمام تلزيم البلوك النفطي رقم 9 في المياه الإقليمية وتوقيع عقد في شباط 2018 مع ائتلاف شركات دولية هي «توتال» الفرنسية و«إيني» الإيطالية و«نوفاتيك» الروسية، فإن عمليات التنقيب في هذا الحقل لن تبدأ ما لم يتم التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. فهذه الشركات تريد ضمان استثماراتها على أقل تقدير قبل الخوض في الاعتبارات السياسية التي قد تُعيقها عن مباشرة أعمالها.
سيف العقوبات الأميركية سيفعل فعله لمنع حصول مفاجآت
وينبع التساؤل عن التوقيت من المنطلقات التي يرتكز عليها منظرو «حزب الله» أنفسهم بأن حدّة النزاع الأميركي – الإيراني تقوم على مَن يصرخ منهما أولاً، وأن الأولوية اليوم لدى «محور الممانعة» هي الحفاظ على ما يملك من أوراق قوة إلى حين ظهور نتائج الانتخابات الأميركية، والتي يعوّل أن يخسر فيها ترامب لصالح بايدن، الذي على زمن رئيسه باراك أوباما أبرمت إيران الاتفاق النووي وتمدّد نفوذها في الإقليم. ولا شك أن ورقة الترسيم هي إحدى هذه الأوراق التي يريد «حزب الله» وإيران استخدامها من موقع قوّة، فيما يؤشر المسار الذي سلكه الاتفاق إلى أنه يعطي إنجازاً جديداً لترامب في إدارته لملف التسوية مع إسرائيل.
فالمسألة ليست مسألة تقنية، بل هي سياسية في العمق. وصحيح أن الآلية التي ستعتمد في المفاوضات هي الآلية الثلاثية الموجودة منذ تفاهمات نيسان 1996 والمتبعة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701، والتي بواسطتها أنجز الخط الأزرق البري، والتي تعتمد على عدم التخاطب المباشر بين المفاوضَين اللبناني والإسرائيلي، بل من خلال الفريق الثالث الأميركي الذي سيتولى الإدارة، بيد أن المفاوضات تهدف إلى إنجاز اتفاقات بين «حكومتيّ لبنان وإسرائيل على حدودهما» كما جاء في الورقة التي جسّدت الاتفاق – الإطار الذي تلاه بري، حيث غابت حدود فلسطين المحتلة وحضرت حدود إسرائيل، «وحين يتم التوافق على الترسيم في نهاية المطاف، سيتم إيداع اتفاق ترسيم الحدود البحرية لدى الأمم المتحدة عملاً بالقانون الدولي والمعاهدات والممارسات الدولية ذات الصلة» وفق الورقة التي أشارت إلى أن الجانبين معنيان بالتوقيع على المناقشات وتنفيذها، ولا وجود لتوقيع «اليوينفيل» الذي سيحضر فقط في ما خص حل نقاط الخلاف المتبقية على الخط الأزرق.
الاتفاق في خواتيمه سيفتح الباب واسعاً أمام إعلان نهاية الصراع مع إسرائيل من بوابة المصالح الاقتصادية، ولا يمكن قراءة الإعلان عن الاتفاق – الإطار إلا من زاوية خسارة «حزب الله» ومحوره ورقة ثمينة من يده. فإيران لم تفق بعد من صدمة الاتفاق الإماراتي – البحريني – الإسرائيلي، فبعدما كانت تتباهى بوجودها على حدود إسرائيل من خلال أذرعها في لبنان وسوريا وفي غرب العراق، فإذا بـ«الاتفاق الإبراهيمي» يخلق تبدلاً جوهرياً في مكامن قوتها، إذ بعدما كانت تلعب في الحديقة الخلفية لإسرائيل، أضحت الأخيرة موجودة في حديقتها الخلفية وتشكل تهديداً جدياً للأمن القومي الإيراني.
كان لافتاً إعلان بري أن دوره انتهى عند هذا الحد. وترك الأمر رهن قيادة الجيش برعاية رئيس الجمهورية وأي حكومة عتيدة. يذهب بعض المراقبين إلى الاعتقاد أن الاعتبارات الكامنة وراء التخلي عن قيادة زمام هذا الملف لا تعود إلى اعتبارات دستورية، بل إلى عدم قدرة «الثنائي الشيعي» على أن يتقدّم المشهد حين تفضي المفاوضات إلى اتفاقات تشق الطريق نحو توقيع سلام قد يصبح مطلباً لا بل شرطاً دولياً إذا كان لبنان يريد أن يدخل إلى عالم الدول النفطية ويستفيد من ثروة يُفترض أن يُظهر التنقيب الاستكشافي حجمها الفعلي.
غير أن احتمال الانقضاض على الاتفاق – الإطار يبقى أمراً وارداً، وكذلك وضع العراقيل خلال رحلة التفاوض لعدم إنجاز الاتفاق النهائي، وإن كان ثمة مَن يرى أن سيف العقوبات الأميركية سيفعل فعله على أقله في الشهر الفاصل عن موعد الثالث من تشرين الثاني لعدم حصول مفاجآت.