فرنسياً وتركياً: حدثان يقطعان الأنفاس، كوابيس متسارعة، حيوية صاخبة على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن الخوالج والمكنونات بين الناس عما يجري أمامهم، سؤال متواصل عمّا تخبئه الأيام الآتية، وأين سينبّت «الحدث الخبر»، في أي أرض، وبأي فاتورة؟
فرنسياً: مجزرة «دهسية» للأبرياء، تصعيد في أسلوب التنكيل بالناس. تصعيد في «تصادم الزمنيات» في يوم الثورة الفرنسية. هذه الثورة عكف الفرنسيون بعد قرنين ونيف عليها على «اختصارها» في الذاكرة الى جملة مبادئ مشعة، وتنحية مآسيها ومجازرها الى حد ما، فكانت المجزرة في عيدها، لتطرح استفهامات مقلقة حول مآل الارهاب، لا سيما وأن السائق السفاح لم يكن مرّ بعملية «راديكاليزيشن»، اي تنشئة متطرفة عقائدية متدرجة، على ما هو رائج الخوض حوله بحثياً ونقاشياً في المعاهد والمحافل.
تركياً: عملية انقلابية فاشلة تثبت قبل كل شيء امراً أساسياً: عهد «الانقلابات العسكرية» يميل الى الانحسار، الا تلك التي يقوم بها الجيش في تراتبيته التقليدية، وحتى هذه. في المقابل، الأوان والقرن كله لـ»الانقلابات الأمنية». هذه الانقلابات الأمنية تفتش عن نقطة تحقق فيها ضربة موضعية أو كمين بعينه للامساك بالخصم، لتحكم جهاز ما بمفصل من مفاصل السلطة. أما «انقلاب عسكري» بمجلس عسكري، وجيش يحكم ويدير ويوزع الحصص بين الناس، فهذا صار من الماضي.
محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة كانت بلا رصيد «انقلاب امني» جدي يسندها، وبلا رصيد «تدبير سياسي» يعطيها حجة ولو ضئيلة لتجويز ما فعلته. كان للانقلابيين لحظة بدوا فيها مسيطرين، ثم اندثرت هذه اللحظة بسرعة البرق، بشكل كرتوني، بل بشكل ملهاتي.
لا يعني هذا ان مسيرة الديموقراطية في الشرق الاوسط بعد انهيار المحاولة الانقلابية على ما يرام. خيبات الربيع العربي ليست وحدها. المنطقة كلها أمام عملية تخلع بنيوي لنظمها. الأتراك واجهوا حصتهم الطارئة هذه بحيوية واستحقوا اعجاب وفرحة شرائح عربية واسعة.
لكن النقلة النوعية باتجاه الاستقرار الديموقراطي لمجتمعات الشرق الاوسط، بل لاي مجتمع منها، ما زالت نقلة بعيدة عن مداركنا. وفي مكان ما، كي تتأمن شروط النقلة، على العقل النقدي الحر ان يقيم مملكته، بوجه «التقدمي» اذا قتل شعبه، كما بوجه الظلاميين والغلاة من هذه الفئة، وبوجه الظلاميين الظالمين من تلك.
فرنسياً وتركياً: اللبنانيون نسوا السياسة الداخلية تماماً لبضعة أيام. لكن الاحداث التي شاهدوها وعاشوها ستفرض نفسها في ثيابها اللبنانية أيضاً: تحدي مكافحة الارهاب، تحدي مكافحة نزعات التسلط والانقلاب، تحدي صيانة المشاريع المعتدلة كي تكون معتدلة قادرة، ومعتدلة دافئة، تنطلق من اصالة التعددية في هذا البلد، وانه لا يحكم بغلبة فئة على فئة، وان المساواة القانونية فيه بين مواطنيه ومواطناته هي الاساس لكل دستور ولكل تشريع، وكل بحث عن تسويات آنية ومستدامة.
سائق شاحنة نيس ليس لوحده في هذا العالم. ثمة أشرار كثر. ثمة أشرار أغبياء وأشرار أذكياء.
الانقلابيون فشلوا، لكن التربص بالمسارات المؤسسية لن ينتهي في المنطقة ولا في العالم، لا سيما انه مع افول زمن «الانقلابات العسكرية« ستزدهر الانقلابات الامنية اكثر، وهي قادرة اكثر على التكيف مع روح العصر، وآلياته وشبكاته، ومع كل جديد.