IMLebanon

حين أنشأت الأقليات دولها وهدم الموارنة دولتهم

مئة عام على الإبادة الأرمنية والمجاعة في جبل لبنان، تحوّلت فيها الأقليات من مجموعات إلى دول. وحدهم الموارنة أسسوا، قبل أقل من مئة عام، دولة تخلوا عنها تدريجاً

على مشارف السنة الأولى للشغور الرئاسي، وتزامناً مع الاحتفالات بالذكرى المئوية الأولى للإبادة الأرمنية، يذهب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى أرمينيا، ومن ثم إلى فرنسا حاملاً ملف الرئاسة.

ليس الراعي حتماً البطريرك الياس الحويك، الذي ذهب قبل أقل من مئة عام إلى باريس ليعود بصيغة لبنان الكبير وإلحاق الأقضية الإسلامية بجبل لبنان وإرساء فكرة العيش المشترك للمرة الأولى في الشرق الأوسط. والتذكير بالتاريخ، رغم أنه يزعج البعض أو الكثيرين، هو الذي جعل الإبادة الأرمنية حية خلال مئة عام، وأدى اليوم إلى فورة الاعترافات بها رسمياً على مستوى عالمي. وهو الذي يحيي أيضاً تاريخ المجاعة في لبنان. إذ ينشط، منذ نحو عام، باحثون موارنة وروائيون وإحدى دور النشر التي أصدرت مجموعة كتب عن المجاعة، لإطلاق مئوية ذكرى المجاعة التي يتحمل الموارنة أيضاً مسؤولية تجاهلها، والتي أودت بحياة مئتي ألف من سكان جبل لبنان المسيحي، وتسليط الضوء على فظائعها وتفاصيلها البشعة (اللهم إلا إذا اعترضت أيضاً شخصيات إسلامية على ذلك كما اعترضت على اتهام تركيا بالإبادة).

واستعادة سقوط الدولة العثمانية وذكرى الإبادة الأرمنية والمجاعة تعني، بحسب أحد الباحثين الموارنة، الإضاءة على مفارقة أساسية، وهي أن الموارنة حينها تمكنوا، بعد سقوط السلطنة العثمانية، من بناء دولة لبنان الكبير وأسسوا لجمهورية الاستقلال الأولى. في المقابل، أدى انهيار السلطنة إلى إبادة مليون ونصف مليون أرمني وتهجير البقية منهم، واستمرت تداعيات تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط سنوات، اكتملت بنكبة فلسطين وتشريد الفلسطينيين وقتلهم، وإنشاء اليهود دولة إسرائيل، فيما هُجِّر الأكراد وقتلوا أيضاً.

بعد مئة عام، تنعكس الصورة، ليصبح الكلام للمرة الألف عن الموارنة ضرورياً، بقدر ما ينهار وضعهم جذرياً. يذهب بطريرك الموارنة ومسؤولون مسيحيون إلى دولة أرمينيا المستقلة، وينشئ الأكراد نواة دولتهم حيث تتهافت إليهم الرساميل، ومنها اللبنانية، ويتقاسم اليهود والفلسطينيون دولتين بعد صراعات وحروب طويلة لم تنته بعد. يحقق الأكراد والفلسطينيون واليهود والأرمن حلم الموارنة بدولة تخلوا عنها تدريجاً، مهما كابروا وافتعلوا معارك وهمية.

مع استعادة التاريخ، محاولة بسيطة لعرض ثلاثة مشاهد آنية على الساحة اللبنانية:

أولاً، يدافع الشيعة عن لبنان وعن سوريا وعن العراق وحتى عن اليمن. عن حق أو عن غير حق، خاضوا معارك فرضت وجودهم رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية. وفي الداخل اللبناني، بات القرار في يدهم، اعترف الآخرون بذلك أو لم يعترفوا. هل نتذكر 7 أيار، وأن لا مركز شيعياً واحداً شاغراً في الدولة، وأن الانتخابات النيابية تلغى لأن لا مصلحة للحزب اليوم بإجرائها بسبب دخوله في حرب سوريا.

ثانياً، يكرس السنّة وجوداً مطّرداً في السلطة السياسية وفي مناطق نفوذهم، مستفيدين (كما الشيعة من دعم إيران)، من وجود سند عربي ومدّ إسلامي واسع. لا ضرورة لعرض ما اكتسبه السنّة في لبنان منذ الطائف وحتى اليوم. لكن هل يمكن الموارنة أن ينفوا أن الرئيس سعد الحريري يجول في واشنطن والدول الكبرى، وأن الموارنة يكتفون بمقابلة سفير من هنا وآخر من هناك؟ وهل ينفون أن هناك أربعة مسؤولين من الطائفة السنية يتحكمون بالبلد ولم يستطع أي فريق سياسي معارض أن يمس بهم: الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي (قبل تقاعده)، المدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت، المدير العام لهيئة أوجيرو عبد المنعم يوسف، ورئيس لجنة إدارة مرفأ بيروت الموقتة حسن قريطم الذي يقف اليوم في وجه بكركي والأحزاب المسيحية كلها في قضية ردم الحوض الخامس.

أما المشهد الثالث، فماروني بامتياز: لا رئيس مارونياً للجمهورية منذ نحو سنة، والشغور الرئاسي مرجح للاستمرار طويلاً. خلاف طاحن على مركز قائد الجيش، يكاد يتحول شغوراً أو تمديداً ثانياً، بعد استفحال الصراعات حوله. خمسة أشهر من الحوارات المعلنة والسرية لورقة تفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لم يكتب بعد لها أن تخرج إلى العلن. خلافات مسيحية طاحنة على تعيينات المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى وعلى قانون الانتخاب وعلى مشروع استعادة الجنسية. بعض نواب ووزراء يصلون بحكم ثرواتهم ومحسوبياتهم. تراجع دور البطريركية المارونية والرهبانيات على اختلافها، وتراجع الدور الوطني والمسيحي للجامعات والمدارس الكاثوليكية. فراغ ماروني في مؤسسات الدولة، بسبب انعدام الرؤية في الإقبال على الإدارة المدنية أو العسكرية، بعدما باءت بالفشل كل محاولات إقناع القاعدة المسيحية بالانضمام إلى المؤسسات الأمنية. هجرة أصحاب الاختصاص إلى دول الاغتراب والخليج. عقم متزايد في إدارة المؤسسات الإعلامية المسيحية وتراجع الحصص المسيحية المصرفية. فساد وفضائح في عدد من الدوائر الكنسية والعلمانية ومستشفيات ومطرانيات ومدارس، وأصحابها معروفون وأخبارها متداولة بنحو واسع.

بين ثلاثة مشاهد، يقف الموارنة تحديداً يتفرجون على الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من تاريخه، فيما يتقلص حضورهم السياسي والوطني. وحدها مآدب الغداء والعشاء عامرة، تعكس حال الطائفة المارونية ونوابها ووزرائها ورؤسائها. اسألوا المتبرعين بها فهم يعرفون.