بقيت أوساط النظام السوري لأيام عدة مصدومة بالضربة الأميركية والخسائر التي تسبّبت بها، وأسرّ عدد من القريبين الى بشار الأسد أن صدمتهم كانت أكبر بالهجوم الكيماوي نفسه. وفي جلساتهم الخاصة لم تكن رواية النفي والإنكار هي السائدة، بل التساؤلات عن مبرّر استخدام هذا السلاح في ذلك التوقيت وذلك المكان، خان شيخون، ولم يكن واضحاً لديهم لماذا حصل الهجوم ومَن أمر به ومَن نفّذه. لكنهم اعتادوا منذ أعوام على اعتبار أن ما لا يملكون تفسيراً له يكون مصدره روسيا أو إيران، ويعتقدون أنهما الاثنتان معاً هذه المرة، حتى لو اعتُبر رئيسهم مسؤولاً عنه. أما لماذا فلأن هذه الأوساط نفسها كانت، قبل ساعات من الهجوم، تهلّل للمواقف التي صدرت عن أطراف من ادارة دونالد ترامب وقالت إن ازاحة الأسد لم تعد أولوية أميركية. تلقى الأسد من واشنطن، للمرّة الأولى منذ ستة أعوام، ما تاق الى سماعه، وما كان بلغه مراراً عبر الاسرائيليين وغيرهم، من اعتراف به ولو كأمر واقع. ولعله تذكر مقابلته مع عضو الكونغرس تولسي غابارد عندما بلغته تصريحات ريكس تيلرسون ونيكي هايلي لأنها مطابقة لما نقلته إليه غابارد.
وخلال الشهور السابقة زارت دمشق وفود غربية كثيرة، معظمها من أجهزة استخبارية، وبعضٌ منها يمثّل جهات سياسية من اليمين المتطرّف الذي غدا من زبانية موسكو. وقد ساهم ذلك في تعزيز ارتياح الأسد الى أنه في صدد العودة كـ «نقطة تقاطع» لا غنى عنها بالنسبة الى القوى الخارجية. لكن المواقف الأميركية العلنية جاءت خلال احتدام المعارك عند البوابة الشرقية للعاصمة، كذلك جبهة حماة، ما عنى أن دمشق لم تعد خطّا أحمر، وأن الخطر قد يعود ثانية الى منطقة القلمون فضلاً عن منطقة الغاب فمنطقة الساحل. ومع ذلك لم يكن بإمكانه تجاهل أهمية «الاعتراف الأميركي»، والاستعداد للتعامل معه واستغلاله. هنا تعتقد الأوساط القريبة أن التطمينات الأميركية تحوّلت فخّاً، وما لبثت روسيا وإيران أن «ورّطتا» الأسد في خان شيخون لإعادته الى كنفهما وقطع الطريق على أي محاولة منه للتفكير في فتح علاقة خلفية مع الأميركيين. ويلخص أحدهم الموقف بقوله إن الروس والإيرانيين أرادوا إفهام الأسد بأنهم أنقذوه ويحافظون عليه لأنهم هم مَن «يبيعونه» عندما يحين الوقت و»ليس هو مَن يختار الشاري.»
ثم كانت الضربة لمطار الشعيرات وتغيّرت الوجهة الأميركية، أو هكذا يبدو، بل تغيّرت حتى لهجة اسرائيل، ظاهرياً على الأقل، وعادت اللازمة تكرّر أن الأسد «لا مكان له في مستقبل سورية»، واستخرج ترامب ترسانة الأوصاف (شرير، جزّار، حيوان…) التي تشير الى شخص يستحيل أن يعمل معه، أو أن يتصل به وفقاً لرواية عضو الكونغرس غابارد، وبالتالي فإن «منطق الواقع» ينافس «الأمر الواقع» بل يمكن أن يناقضه تماماً. فهل تغيّرت السياسة الأميركية فعلاً؟ كثيرون يشكّكون، لكن الأكيد أنها باتت تعبّر عن تفكيرها في بشكل مختلف، بدءاً من رغبة معلنة في تحجيم النفوذ الإيراني، الى عدم التردّد في إغضاب روسيا وإقلاقها وحتى مساءلتها عن مسؤوليتها في سورية، الى إشعار الأسد نفسه بأن استمراره وزمرته ليس مضموناً وأن المطروح هو «خروجه بطريقة منظّمة»، وفقاً لتيلرسون، ففي كل الأحوال لن تقدّم الولايات المتحدة شيئاً الى روسيا (أو إيران) لقاء إبقائه أو إخراجه. أما الوجه الآخَر للسياسة الأميركية فهو أكثر وضوحاً ويتعلّق باقتلاع «داعش» في الشمال اعتماداً على الأكراد مع وجود أميركي كبير على الأرض، وفي الجنوب على قوة سورية من العسكريين المنشقّين مع مواكبة أميركية – بريطانية.
ما لم تبلغه اللغة الأميركية بعد أن القضاء على الإرهاب وخروج الأسد يجب أن يكونا متلازمين، فالتركيز على «داعش» والقبول الضمني المستمر بوجود الأسد نقيضان لا يحققان الهدف الذي تحدث عنه ترامب في حضور الأمين العام لحلف الأطلسي (الناتو) حين قال «حان الوقت لإنهاء الحرب الأهلية الوحشية» في سورية. وما لم تحسمه الإدارة الأميركية، لا في استراتيجيتها غير المحدّدة بعد، ولا في تفاهماتها المحتملة مع روسيا، هو أن المضي في الحرب لإنهاء سيطرة «داعش» من دون تقدّم متزامن لحلٍّ سياسي حقيقي سيفضي حتماً الى وضع لمصلحة النظام، وبالأخص لمصلحة إيران، وبالتالي فإن الأسد لن يسهّل أي حلّ، ولن يضطرّ لتقديم التنازلات الضرورية وصولاً اليه. بل إن روسيا لن تضغط عليه ما لم تكن هناك «صفقة» مرضية لها، وعلى افتراض وجود صفقة لا ملامح لها الآن فهل تكون أميركا معنيّةً أيضاً بإرضاء إيران على رغم أنها تريد تحجيم نفوذها، أم تترك الأمر لروسيا التي تعلم أن إيران تستطيع تعطيل أي حلّ من خلال وجودها القوي على الأرض؟ إذا كان التصوّر الأميركي لإنهاء الحرب مبنياً على خروج الأسد فلا بدّ أن يسبقه سحب ميليشيات إيران اذا كان تحجيم نفوذها بين الأولويات الأميركية، فعلاً لا قولاً.
ثمة نقطة اخرى يجب أن توضّح في الخطط الأميركية لمعركتي الرقّة ودير الزور، ولـ «ما بعد «داعش». فالمفهوم أن الأميركيين سيعتمدون على الأكراد، ويُفترض أن يكونوا قد حسموا الإشكالية التي يمثّلها «حزب العمال الكردستاني» الذي لا يضرب داخل تركيا فحسب، بل فرض نفسه أيضاً على خريطة «الحرب على داعش» في العراق، ولديه اختراقات معروفة في سورية. لكن اذا أُريد لمحافظتين عربيتين أن تكونا تحت هيمنة «حزب الاتحاد الديموقراطي» في مرحلة «ما بعد داعش» فمن شأن ذلك أن يؤسس لوضع تصادمي مرشّح للتفجّر، ومن جهة اخرى لم يعد هناك شك في أن الهيمنة الكردية هي امتداد لنظام الأسد، وبديهي أن عودة النظام الى تلك المنطقة بأي شكل ستعني تلقائياً تهجيراً جديداً خصوصاً أن دير الزور شهدت في الفترة الأخيرة موجة نزوح كثيف من الموصل. واستطراداً، اذا وجد النظام أن لديه فرصاً لاستعادة السيطرة على مناطق فقدها سابقاّ فهذا سبب آخر يحفزه، كما فعل دائماً، على عدم التفاوض جدّياً على أي حل سياسي.
في المقابل هناك وضع في إدلب بات ينذر بأخطار جسيمة، فمن جهة تتكدّس أفواج المهجّرين من كل أنحاء سورية، ومن جهة اخرى توجد فيه القوّة الرئيسية المصنّفة متشدّدة أو ارهابية هي «جبهة فتح الشام» («النصرة» سابقاً) المرتبطة بتنظيم «القاعدة» بالإضافة الى فصائل متحالفة أو متعاطفة أو لا خيارات اخرى لديها. وعلى رغم اختلاف ظروف إدلب عن الرقّة، إلا أن ادلب تبدو بالنسبة الى القوى المتدخّلة بؤرة ارهابية ينبغي الانتهاء منها، ومع تكثيف الطيران الروسي قصف المرافق المدنية خصوصاً مقار القبعات البيضاء في خان شيخون يبدو أن روسيا باتت متحمسة الآن لهذه المعركة التي يطالب بها النظام وإيران باعتبارها استكمالاً لمعركة حلب. فهل ستتعايش الإدارة الأميركية بسياستها «الجديدة» مع تدمير إدلب كما تعايشت الإدارة السابقة مع تدمير حلب، فقط لأنها خارج نطاق العمليات الأميركية؟ وهل تكون المساعي الجارية لتوحيد الفصائل أكثر صرامة من سابقاتها فتتخذ موقفاً جذرياً واضحاً من الجماعات «القاعدية» وتجنّب إدلب مثل هذا المصير؟
من هنا إن الضربة الأميركية لمطار الشعيرات، بمختلف رسائلها، لا تكفي دليلاً الى وجود سياسة جديدة. وإذا عاد التنسيق الأميركي – الروسي بالنسبة الى مفاوضات جنيف فسيكتشف ترامب وفريقه ما يعرفونه مسبقاً، وهو أنهم ازاء «شريك» روسي لم يفعل شيئاً طوال الأعوام الماضية سوى تسويق الأسد ونظامه والحرص على عدم إثارة شكوك الإيرانيين، وأن «عملية جنيف» وضّبها ستافان دي ميستورا وفقاً لرغبات موسكو وطهران بحيث تؤدّي الى الصيغة التي تريدانها. أما ادارة ترامب فلا تبدو بعد معنيةً بالمعارضة وقضيتها ولا بالتفاصيل، وقد لا يكون لديها أي جديد لتفعيل المفاوضات.