فورَ رحيل الرئيس الايراني الشيخ ابراهيم رئيسي طُرح الكثير من الاسئلة عن مصير الوضع السياسي والرسمي في الجمهورية التي شغلت العالم عقوداً، وجرى حديث عن «خلاف وصراع المحاور والاجنحة وكيف ستستمر الجمهورية على مسارها بهذا الجو الانقسامي»؟ لكن ثمّة الكثير ممّا يؤكد بقاء ايران على مسارها بغض النظر عن شخص الرئيس وإلّا لما قررت القيادة إجراء الانتخابات الرئاسية باكراً الشهر المقبل مختصرة المهلة الدستورية.
عام 2013، شهدت ايران انتخاب رئيس للجمهورية لمدة اربع سنوات، وفاز فيها آنذاك المرشح المعتدل او الاصلاحي الشيخ حسن روحاني بعد حصوله على نسبة 50.86 بالمئة من الأصوات بوجه الرئيس محمود احمدي نجاد ومرشحين آخرين، وحلّ ثانياً محمد باقر قاليباف.
وفي عز حماوة المعركة الانتخابية قبل صدور النتائج، كان وفد صحافي لبناني يتوجّه بسيارة أجرة من شمال طهران الى الفندق في وسطها وهي مسافة طويلة زادت من وقت عبورها زحمة السير الشديدة، وكان سائقها فوق الخمسيني يتحدث الى الوفد بلغة عربية «مُكسّرة»، وبلهفة واندفاع عن الانتخابات وصراع المرشحين من مختلف التوجهات، وعن مسار العملية الانتخابية وتفاصيلها، ما أوحى للوفد بأنه من قدامى مقاتلي الحرس الثوري ومن أشد مؤيدي السلطات الرسمية.
وبسؤال الوفد للسائق عن تأثير هذا الصراع على النظام الاسلامي وعلى الدولة ومؤسساتها في حال فاز نجاد او روحاني، أكد وبلهجة الواثق وربما العارف، وبما حرفيته: «في نظام الجمهورية، ليس المهم الرئيس، بل استمرار النظام، وأيّاً كانت توجهات الرئيس المنتخب (إصلاحي او محافظ أو متشدد)، فلن يخرج عن توجهات النظام في القضايا الوطنية المصيرية والاسترايجية».
جواب هذا السائق يردّ على كل الاسئلة المطروحة حالياً حول خلافة الرئيس الراحل، خاصة ان مجلس الحكماء الايراني (مجلس صيانة الدستور) المؤلف من نحو 80 عضواً المختَصّ في البَت بالترشيحات للرئاسة له الكلمة الفصل في قبول او رفض ترشيح اي شخصية، وبما يتلاءم مع توجهات النظام وحفظ مصالحه الكبرى الداخلية والخارجية. وقد سبق للمجلس أن استبعد في انتخابات العام 2005، ترشيح علي لاريجاني مستشار المرشد الأعلى، والرئيس السابق نجاد، وإسحاق جهانغيري نائب الرئيس الإيراني، ثم استبعد نجاد في انتخابات العام 2017 فغاب عن العمل السياسي من وقتها الى حد كبير.
وفي العام 2021 قاطَع نجاد الإنتخابات الرئاسية، واعلن «أنه لن يقوم بالتصويت «لأن نتيجتها واضحة». وقال: «إنّ مجلس صيانة الدستور، الذي استبعد ترشيحه لهذه الانتخابات، لم يفسّر سبب منعه من الترشح، وتم تحديد الفائز بشكل مسبق». في إشارة إلى رئيس القضاء وقتها الراحل إبراهيم رئيسي الذي فاز بموقع الرئاسة.
ففي ايران مؤسسات ومرجعيات لها الكلمة المُقرِّرة والمسموعة، ولهذه الاسباب استمرت ايران على النهج والتوجّه ذاته كل هذه العقود برغم الحصار والعقوبات والحروب التي سببت انهياراً اقتصادياً، ولو اختلفت تفاصيل أداء هذا الرئيس او ذاك وكيفية تعاطيه مع الامور الكبرى المطروحة. وبعد كل هذه المراحل الصعبة التي مرت بها ايران، ما زالت لاعباً اقليمياً ودولياً قوياً ومؤثراً في علاقاتها وتحالفاتها وطريقة عملها.
وفي تأكيد آخرعلى ثبات إيران على سياساتها الاقليمية، أكد المرشد السيّد علي خامنئي لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية، خلال استقباله قبل يومين، «أن القائم بأعمال الرئيس الإيراني محمد مخبر سيواصل سياسات وتوجهات الرئيس السابق إبراهيم رئيسي تجاه فلسطين». كما اكد، أمس، القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري كني أنّ «دعم إيران لفصائل المقاومة سيتواصل، وهذا جزء من استراتيجيتنا، وأن سياسة حسن الجوار التي اتّبعها الرئيس إبراهيم رئيسي أثبتت فاعليتها وعلاقاتنا جيدة مع الجوار». وقال كني: «سياسة إيران مع دول الجوار مبنية على العمل للحد من التوتر في المنطقة، وسياسة التوجه إلى الجوار مبدأ أساسي في استراتيجية إيران وسنستمر به».
بعد كل هذه الوقائع وكلام المرشد ووزير الخارجية بالوكالة، لم يعد من مجال لمزيد من التحليل والاجتهاد والتفسير في مقاربة مستقبل ايران السياسي والاقليمي وفي علاقاتها وتوجهاتها العامة الاستراتيجية، وبلا شك سيتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية منتصف حزيران المقبل يحفظ هذه التوجهات ولو اختلف أسلوب عمله وتعاطيه مع الملفات. فالنظام او كما يسمونها «الدولة العميقة» قائمة على ثوابت لا محيد عنها ينصّ عليها الدستور ويعطي توجيهاته حولها المرشد ومجلس صيانة الدستور وبعض المرجعيات الاسياسية.