بعد شهورٍ قليلةٍ ستصبح الدولة الإسلامية، أو دولة الخلافة تاريخاً، هو تاريخٌ كريهٌ وسيئ، وإنما ما عاد من الممكن مَحْوُهُ أو إلغاؤه من اعتبارات محبيه وخصومه منا، ومن اعتبارات واستغلالات الخصوم والأعداء من خارجنا.
لماذا كان هذا الاشتعال لفكرة الخلافة في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، وبشكلٍ عام – وما هي قدرتها على الحياة أو الاستمرار بعد تحالف العالم كلّه عليها، ومن ضمن العالم: كثرةٌ من المسلمين أنفسهم.
لقد اشتعلت فكرة الخلافة وحاولت للمرة الأولى منذ سقوط دولتها عام 1258م على أيدي المغول، أن تعود للتحقق لعدة أسباب. أول تلك الأسباب استمتاعها بشيءٍ من الحياة والقوة، رغم سقوطها الفعلي في القرن الرابع الهجري، والرسمي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي؛ وذلك لاتصالها بالحبل السري للنبوة باعتبار أنّ مؤسسيها هم كبار أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولذلك كان اللقب الرسمي للقائم بالأمر أولاً: خليفة رسول الله، مع ما في هذا التعبير من الإيهام. والسبب الآخر أنّ زمن قوتها أو قوة فكرتها حضرت فيه: قوة الدولة وقوة الدين معاً. فصار ذلك عصراً ذهبياً استقرّ في الأخلاد ثم في الوعي لدى المسلمين السنة، أي أتباع الاتجاه الرئيسي أو السواد الأعظم، وإن نوّهوا على الخصوص بالفترة الراشدة لتوفرها على خصوصيات وشرائط ما توافرت في الحقب اللاحقة. والأمر الثالث ارتباطها بالأصول العربية للإسلام، رغم أنها «وقعت» في أكثر تاريخها الرمزي بأيدي الأعاجم من الفرس والترك. والفقهاء والمتكلمون والمفكرون في الأزمنة الوسيطة والحديثة يشيدون بهذه الميزة للخلافة، ويريدون لهذه الصيغة للسلطة أن تبقى عربية أو على الخصوص قرشية كما هو معروف. بيد أن أهمَّ أسباب القوة والحيوية الحاضرة لفكرة الخلافة ودولتها عمليات التحويل المفهومي التي قامت بها الجماعات الإحيائية التي تحولت إلى جماعات إسلام سياسي، هادفةً من وراء أطروحة الدولة الإسلامية (وصيغة الخلافة لها باعتبارها الأصفى والأكثر شرعية) للوصول للسلطة من طريقها دون سائر الأطراف السياسية. وما ذكرتُ بين عوامل صعود فكرة الخلافة الإخفاقات التي عانت منها تجربة الدولة الوطنية عند العرب وفي العالم الإسلامي، لأن التحول عن الدولة الوطنية العربية بصيغتها العسكرية والأمنية؛ كان يمكن أن يؤدي إلى خياراتٍ أخرى غير «الجهاديات» أو الدولة الإسلامية، لوجود عوامل إضافية أسهمت في انحراف المسار التغييري البناء. ومن بين تلك العوامل: هشاشة النخب المدنية العربية، والسياسات الإقليمية والدولية تجاه المسار الكبير للتغيير.
وما دمنا نتحدث عن الإمكانيات المستقبلية لفكرة الخلافة؛ فلا بد من إعطاء مساحة ولو صغيرة لما سميتُهُ التحويلات المفهومية التي قام بها الإحيائيون المتحولون إلى إسلام سياسي، وصيرورة شعبةٍ منهم إلى التوجه الجهادي الانشقاقي الكبير. أما إحيائيو الإسلام السياسي؛ فإنهم ركّزوا على مسألة الدولة وشرعيتها، والتنظيمان الرئيسيان اللذان اشتغلا على مسألة الدولة والشرعية هما الإخوان المسلمون (1928 وما بعد)، والجماعة الإسلامية بالهند وباكستان (1941 وما بعد). وقد أعانهم في ذلك مفكرون صاروا إسلاميين، وإن لم يكونوا تنظيمياً منهم. وهؤلاء جميعاً (اعتبروا الدول الوطنية الجديدة دولاً متغربة نشأت في ظل الاستعمار). ولأنّ الإحيائيات كانت أصلاً ضد التقليدية الدينية؛ فإنّ عمليات «التأصيل» الديني (العودة إلى ما قبل التقليد أو ما فوقه)، جهدت أيضاً للقيام بالحط على التقليد السياسي أو الدولتي القديم، لصالح تأسيس للسلطة السياسية أيضاً على الكتاب والسنة. وهكذا صار الدين ذاته غير تاريخي أو لا يخضع لتجربة الجماعة في التاريخ، كما أن الدولة التي يُراد إنشاؤها غير السلطات التقليدية أو المتغربة، صارت غير تاريخية أو لا تصنعُها الجماعة، بل تصنعُها أفكار وتوجهات هؤلاء الإحيائيين. وهكذا صار الدين (باسم الاجتهادات الجديدة) من صناعتهم أو تأويلاتهم للكتاب والسنة، وكذلك صارت الدولة التي يرادُ تأسيسها على الدين حسبما فهموه أو أولوه. ولذلك لم يبق منها غير دولة الراشدين بسبب صلتها الوثيقة بعهد النبوة، حسبما هي في وعي الجمهور.
أما السلفيات الجديدة فقد ركّزت على الجهاد، باعتباره ركن الدين المهمل في زمن التغريب والاستعمار. والتقى الطرفان في السبعينات من القرن الماضي وما بعد، على إقامة الدولة التي تقيم الجهاد وتطبق الشريعة، أما الجهاديون فبالقوة، وأما المسيَّسون فبخليط من الوسائل والأدوات، يدخل فيها العنف، كما تدخل المقاومة السلمية، التي يتقبلها الجمهور بترحابٍ أكبر. ولذلك ظهر في أدبيات الإسلاميين مصطلحا التؤدة الاستراتيجية، وجهادا الدفع والطلب.
أين نحن الآن من المصطلحين ومن واقع أو مستقبل هذه الأفكار والمشروعات. لقد تأثر المشروعان السياسي والجهادي كثيراً في العقدين الأخيرين بالتجارب التي حدثت، والتي أدَّت إلى قصم ظهر المشروعين: مشروع الإسلام السياسي، ومشروع الإسلام الجهادي. أما الجهاديون من «القاعدة» وإلى «داعش» فقد قاتلتهم الولايات المتحدة، ومن ورائها النظام العالمي، وهي توشك – وهذه المرة بمعاونة الروس وإيران – أن تقضي على دولتهم. وأما جماعات الإسلام السياسي، فقد خابت في مصر، وتحولت في سائر البلدان لتأجيل مشروع الدولة الإسلامية لصالح المشاركة ولو ضئيلة أو هامشية، وبالنظر إلى المستقبل على أنه لا يزال يملك إمكانيات تحقُّق، بسبب وجود جمهورٍ لهم، بعكس الجهاديين.
إنّ الذي أراه بعد هذا التحليل للواقع وللمسار أنّ المشروعين هما في طريقهما للخفوت وربما الزوال. أما المسار الجهادي، فلإجماع العالم والمسلمين ضده. وأما المسار السياسي؛ فلأنّ الإخوان في كل مكان، أثبتوا، ورغم تقدم بعض جماعاتهم في الانتخابات، أنهم عاجزون عن تسيير وإدارة الدول والمجتمعات، للافتراق الهائل بين أفكارهم وممارساتهم، ولأنّ الشعبويات يستحيل عليها التحول إلى أنظمة سياسية ناجحة في زمن الناس والعالم هذا.
لكنّ الفشل الذي أصاب الجهاديين والسياسيين الإحيائيين على حدٍ سواء، ما كان بسبب حرب العرب والمسلمين الآخرين عليهم؛ بل بسبب مقاتلة الغرب الأميركي والأغربة الأخرى لهم بالعسكر وبالدين وبالثقافة. ولذلك فإنّ واقعة الفشل خلّفت وتُخلِّفُ مراراتٍ هائلة، ولدى الجمهور الأوسع. لقد بقيت لـ«القاعدة» بقايا لأن الأميركيين ظلوا مكافحيها الرئيسيين. وهؤلاء لا يتاجرون بهذه البضاعة (العداء للأميركان)، بل يتَّجر بها آخرون مثل الإيرانيين. ثم إنّ الجمهور الذي حطّم «داعش» صموده وتماسكه، يرى الآن أنّ الإيرانيين يستفيدون من ذلك التحطم في الأرض والسكان. ولن يمضي شبان الجمهور بعد اليوم نحو التطرف – بخلاف ما يزعم المراقبون – لأن الجهاديين ما عادت عندهم وعود من أي نوع. وكذلك صُنّاع الإسلام السياسي للسببين اللذين ذكرناهما: الشعبويات المخنوقة، وانعدام الكفاءة. لكنّ المرارة ستستمر وتتصاعد لضآلة البدائل والآفاق. فالدوليون والإقليميون يريدون إعادة العسكر باعتبارهم الحلّ. والجمهور الحافلُ بالمرارات ضائعٌ بين التهجير والقتل والإحساس الكامن بالهوان وقلة الحيلة.
إنّ عندنا فرصةً في الدول والنخب وفي عيون العالم لأمرين: إعادة التواصل الوثيق مع الجمهور بعد أن غرّبتنا عنه الأصوليات والشعبويات، والتفكير مع إدارات الدول في كيفية استنقاذ الدولة الوطنية العربية.
عودة فكرة الخلافة ودولتها فواتٌ هائل. والأهولُ منه أن نعجز عن صنع بدائل مقنعة ومؤثرة بشأن حاضرنا ومستقبلنا.