IMLebanon

دمار العولمة… في حلب

المثقفون الذين سارعوا إلى الترحيب بالعولمة والترويج لأفكارها كما صاغتها التطورات الغربية، مطالبون بإجراء مراجعة لجملة «الجميع رابح في العولمة»، ومطالبون أيضاً بقول آراء في التنميط الذي أريد لكل الشعوب والكيانات التي تقع خارج مدى بيئة التفكير الغربي. فلقد بدا أن الغرب، الذي صاغ الكثير من مقولات الانفتاح والتسامح والقرية الكونية، في وضعية التناقض بين نظرياته وممارساته. تجلت صور التناقض في كل البلاد التي تعرضت لهجمة المصالح الغربية، وما زالت الصور تتوالى في صيغة إزاحة الوعي والبصر عن حقيقة الدمار والتدمير في بلاد العرب، وفي صيغة السماح بتمزيق النسيج الاجتماعي لشعوبها، وأيضاً في صيغ مختلفة من المساهمات في عملية الدمار والتدمير، ودائماً وفق مقولة الحروب النظيفة، أو الحروب العادلة، حيث يكون القاتل بعيداً، في طائرة من دون طيار أو في بارجة حربية، أو في قاعدة خلفية تفصلها عن ميدان القتل مسافة محيط، ومسافة وأد كتب ونظريات وأفكار. لقد باتت العولمة الحالية عبارة عن حاملة طائرات متنقلة، وبيانات عن حقوق الإنسان لا يتجاوز مردودها التضليل والتسويف، ولا أثر لها سوى في تقديم «الذات الغربية» تقديماً بريئاً أمام معتقداتها وادعاءاتها.

يقدم المشهد السوري ما يدحض أخلاق العولمة، ففي العراق سقطت مقاصد «الديموقراطية العالمية» منذ زمن طويل، أما في الديار العربية الأخرى، فثمة من ينتظر تقرير مصير بلاده في سطور آخر بيان قد يصدر من منتدى «المعولمين الكبار»، الذين تأخذهم الرأفة بسكان البلاد المستهدفة عندما يصبح هؤلاء لاجئين، ولا يعيرون انتباهاً للسكان ذاتهم عندما يخرجون إلى المطالبة بحقوقهم الطبيعية في الحرية والحياة والكرامة، بل على الضد من ذلك ينضم المتعولمون إلى حملة الاستبداد المضادة، فيضيفون إليها نكهة استبدادهم «الديموقراطي»، الذي عاد لينفي الآخر، في معاكسة لكل التطورات التي أنتجتها الثقافة الغربية منذ القرن السادس عشر وحتى تاريخه.

نفترض أن التسامح الذي نادى به الفكر الغربي منذ عصر النهضة، صار واحداً من لزوميات الإعلانات السياسية والحقوقية الغربية، ونفترض أن ما ارتبط بمفهوم التسامح من قيم العدالة والحرية والديموقراطية، وأن إعلان مبادئ التسامح من جانب منظمة اليونيسكو يشكل ميثاق شرف في بيئة وحواضر الذين خاضوا معركة قبول الآخر والعيش معه، إذن وبناءً عليه، لماذا تدمر سورية مثلاً؟ وماذا فعلت حاضرة حلب غير أنها طالبت بإعلان شأن ثقافة أهلها في مواجهة لا ثقافة الاستبداد؟ السؤال يمكن تعميمه على كل البلاد العربية، مثلما يمكن نشر مظلته فوق كل فتات السياسات التبريرية والمكيافيلية التي يسوقها الغرب الأميركي خصوصاً، ويلحق به إلى السوق الشرق الروسي والصيني وكل منظومة الاستبداد.

تعميم السؤال لا يقبل التمييز بين مستبد ومستبد، ولا يقبل التجزئة والاستنساب ليصير من نصيب بلد من دون غيره، أو ليسحب من يد أهل مدينة من دون سواهم. الجدل اليوم ليس حول التدقيق في سياسات ومنابت من تسلطوا على حلب ببنادقهم وماضويتهم، وليس عن تخلف النظام الذي صار أيضاً من الماضي السياسي والفكري منذ زمن طويل، بل السؤال يجب أن يخاطب أصل المشكلة العربية، أو المأزق العربي العام، وأن يضيء على مطالب الشعوب التي حاولت ردوداً على طريقتها، فجاءتها ردود الأنظمة قتلاً وتدميراً وإمعاناً في الإقصاء والإلغاء والاستبداد.

يستطيع كل متدخل غربي أو شرقي أن يتغطى بتبرير مقاومة الإرهاب، لكن لا يستطيع أي متدخل أن يفلت من مواجهة حقيقة أن الشعوب العربية خرجت طلباً لاسترداد حرياتها وكراماتها وحقها في استرجاع السلطة من أيدي المتسلطين الذين فقدوا كل شرعية. العودة إلى هذا الأساس، تطرح السؤال عن أخلاق المتدخلين، بمعايير فلسفاتهم ونظرياتهم ورؤاهم حول عولمتهم وعالميتهم، لكن الجواب لن يأتي إلا في صيغة نفي الأخلاق والفلسفة وقبول الآخر ونصرة الحرية وحق الشعوب في خياراتها، نفي يعرفه كل المتدخلين الذين يضعون جردة العوائد الاقتصادية على جدول أعمالهم، ولا تعنيهم إحصاءات القتلى ولا حجم الدمار الذي تساهم في إحداثه فلسفاتهم وسياساتهم ومرجعياتهم النظرية. لقد انتظر أهل حلب نجدة العالم؟ «فغطاهم» بانسحابه، وكان على العالم أن يختار بين فائض قتل أهل سورية، وبين فيض رساميله فاختار من دون تردد فواتيره الاقتصادية.

كانت الضحية الأولى فلسفة الغرب وأخلاقها، وبعدها تكاثر عدد الضحايا الذين تسببت في فنائهم حروب الحضارة الغربية المتنقلة. لا انسحاب من العالم. لا استكانة لأخلاقياته الجائرة. من هنا تبدأ رحلة البحث عن أخلاقيات المقتولين وعن وسائل دفاعهم الملائمة.