من الشمع وسراج الكاز إلى اللوكس ووسائل الإضاءة بالغاز، إلى البطارية ووسائل الشحن والتوفير، الى مولدات البنزين والمازوت، الى الاشتراك وتوزيع الأسواق واحتكارها، وصولاً الى نموذج كهرباء زحلة حالياً الذي يجمع بين الاشتراك وكهرباء الدولة، وإلى ما يطرح على صعيد الخصخصة وإشراك القطاع الخاص… يُظهر تطور البدائل الكهربائية المدى الحقيقي لأزمة الكهرباء عندنا، ليس فقط على صعيد المعاناة والمدى الزمني الطويل والتكيّف المتواصل الذي يظهره المقيمون في لبنان، بل المدى نفسه تقريباً الذي استغرقه التطور التكنولوجي لهذه البدائل في سوق استهلاكية مفتوحة، والمدى الذي يطلبه نقل هذا التكنولوجيا الى لبنان، في ظل تجارة حرة عالمية ودرجة عالية من التحكم محلياً.
إنه مدى طويل نسبياً، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في ظل الحرب والاحتلال والدمار الذي أصاب البنى التحتية، إلى الآن، أي على مدى 35 عاماً. في هذا الوقت، تطورت التكنولوجيا كثيراً، ومعها المصالح والأسواق والصراعات الاجتماعية. «الاشتراك» الذي بات منذ مدّة البديل الأكثر انتشاراً، بنى مصالح ضخمة في استيراد المازوت وتوزيعه ودعمه من قبل الدولة وتجارة المولدات وقطع الغيار وخدمات الصيانة وشبكة واسعة من المشغلين الصغار وعمالهم، يحتكر كل منهم حياً أو بلدة أو مجموعات أحياء وبلدات…. يقدر البنك الدولي قيمة هذه السوق (الكلفة التي نسددها على المولدات) بنحو مليار و700 مليون دولار سنوياً. أي أكبر من سوق الدواء مثلاً. الصراع يجري على الاستئثار بهذه السوق… من هنا، يمكن فهم الهياج الرأسمالي الدائم للوصول إلى خصخصة الكهرباء
يمكننا أن نروي سردية أزمة فرد في لبنان، يعاني من سوء تغذية بالطاقة، فيقرأها اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون واليمنيون، الخ.. ويؤكدون أن الفرد ليس أحد غيرهم. في كل واحد من هذه البلدان المصابة بمجاعة الطاقة، رغم تخمتها بمواردها الأساسية، يتفنن المواطن بالتعويض عن النقص في خدمة التغذية بالكهرباء، بوسائل يُظنّ أن لا محل لها إلا المتاحف ومحالّ الخردة، ويتكيف مع عجز الدولة عن إقصاء مسألة الكهرباء خارج اهتمامات الفرد المركزية، الذي كان ولا يزال يرتب شؤون حياته وفق برنامج مفصل حول مواعيد تغذية التيار الكهربائي وانقطاعه. كانت مُدَرِّستنا في الثانوية العامة، لحسن الحظ، تنهي الحصة وتخرج قبل استكمالها لئلا تضطر إلى صعود الدرج إذا ما تعدّت الساعة الثانية ظهراً، موعد انقطاع الكهرباء. ومثلها كنا نرتب مواعيد السهرات، الاستحمام، تشغيل الحاسوب، التدفئة… وبالتالي معظم الأنشطة الحياتية وفق برنامج كهرباء الدولة، التي أفلحت في أن تجعل برنامجها منظّماً ومنضبطاً، إلى الحد الذي صارت فيه الساعة (2،6،10،12) تحيل سريعاً إلى بهجة أو خيبة.
وعلى هذا، لم تكن الكهرباء شيئاً عابراً في حياتنا، وليست هي كذلك الآن، لكني أظن أن أزمة الكهرباء فقدت حضورها البارز في لبنان، لأسباب تتعلق أولاً بوصولنا إلى مرحلة المأسسة والتشريع غير المعلن للبدائل في ظل هذه الأزمة (تحت مسمى الخصخصة مثلاً)، وثانياً لتراجعها في الخطاب العام أمام أزمات أدهى كأزمة النفايات والبيئة. شغلت الكهرباء لفترة طويلة الرأي العام، وكانت أخبارها مراراً الخبر الأول في نشرات المساء، وللمطالبة بها نزل المواطنون إلى الشارع، أشعلوا الإطارات، قطعوا الطرقات، وهددوا الدولة. حتى جدّي، كان يتصل بمؤسسة الكهرباء ويوبخها بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل، ولا أدري إلى الآن كيف رضخوا للتهديد! لكن، من يهتم بأزمة الكهرباء اليوم؟ وما هو ترتيبها في سجل نشرات الأخبار التي تؤجل أخبار الناس إلى يومي السبت والأحد لندرة أخبار السياسة؟ مع ذلك، لا يبدو أن الناس نسوا هذه الأزمة أو تخطّوها، هم في أحسن الأحوال يجربون التكيف معها والتغلب على عجز الدولة عن تأمين أبسط الضرورات، وعلى عجزهم عن تخطي خوفهم من الآتي إن هم أطاحوا السلطة، عبر بدائل تبدو قاصرة عن تلبية كامل احتياجاتهم وفي تحقيق الأمن في مجال الطاقة.
تاريخ الكهرباء هو تاريخ البدائل
إن تاريخ الكهرباء في لبنان لا يجب أن يدوّن من غير تأريخ للبدائل التي استخدمها الناس لملء الفراغ. البدائل التي يصعب إدراجها في خط كرونولوجي كأنها حقب بدأت ثم بادت، لاستمرارها وتوازيها في الكثير من الأحيان. لا يمكن مثلاً القول حتى إن “السراج” أو “القنديل” أو “الشمع” لم يعد لها استخدام حتى الساعة، ما دام عدد من اللبنانيين يحتفظون بها ويستخدمونها (قبل أيام، كان الموظفون في مكتب شؤون الطلاب في كلية العلوم السياسية، فرع الحدث، يكملون دوام العمل في ضوء السراج!).
في منطقة بئر حسن، حيث أحياء الفقراء والنازحين السوريين، يبيع “أبو مصطفى” في محله الذي افتتحه قبل 17 عاماً، كل وسائل الإضاءة والتدفئة التي يمكن تشغيلها بأقل الأسعار: سراج الكاز، لوكس الكاز، لوكس الغاز، بابور الكاز، مدفأة كاز (سموها: علاء الدين)، إضافة إلى مدافئ كهربائية صغيرة، إحداها مثبتة على قاعدة مخصصة للمراوح الهوائية، صنعت في لبنان. يقول “أبو مصطفى” إن “الطلب على هذه الوسائل لا يزال مستمراً، رغم الاشتراك، لأنها أوفر،” لكن هذا لا يعمّ إلا الطبقات الفقيرة، أو المناطق التي لم يصلها “الاشتراك” بعد.
كبديل أفضل ومتوسط من حيث التقنية والخدمة، تأتي بطارية الـ(v 12) ولمبات “الفلورسونت” التي انتشرت على نطاق واسع خلال الثمانينيات. كانت البطاريات تشحن من خلال محوّل كهربائي، وتستخدم بشكل أساسي خلال الليل. ورغم أن التلفزيونات الصغيرة (كانت غالباً بالأبيض والأسود) كان يمكن تشغيلها عبر البطارية، إلا أن ذلك كان يعني استنفاداً سريعاً للبطارية، وبالتالي إمضاء بقية السهرة على ضوء الشمعة. كانت لمبات “الفلورسونت” مزعجة ومسببة للكآبة، ضوؤها الأبيض الخفيف والباهت، وصوت الصفير الحاد الذي كانت تصدره بعد طول الاستخدام، كانا يسببان الصداع والملل، لكن أجمل ما فيها أنها كانت جهازاً كهربائياً يمكن تصليحه لا مجرد لمبة. في وقت لاحق، استبدلت لمبات “الفلورسونت” بلمبات “التوفير”، إضاءتها أشد، وآمنة، وعلى عدة أصناف وألوان، أحدها أصفر.
لتحسين خدمة البطارية المحدودة، توجه البعض نحو شراء محوّل (Ups/Aps) يمكّنهم من تحويل طاقة البطارية الخازنة إلى طاقة كافية لتشغيل مختلف الأجهزة الكهربائية، إن كان باستطاعة المرء شراء محوّل كبير وعدد من البطاريات، وهو ما لا يعد ميسوراً إلا للطبقات المتوسطة. “بدأ تصنيع المحوّلات منذ عام 1993 بتميز عن المنتج الصيني، حيث يتميز منتجنا بالمتانة والقابلية للصيانة بشكل أسهل”، يقول أحمد الأخضر صاحب إحدى ورش صناعة المحوّلات الكهربائية وتصليحها في ضاحية بيروت الجنوبية. ويحدثنا عن التراجع في الطلب عليها خلال السنوات الأخيرة بسبب مزاحمة “الاشتراك”، وانخفاض أسعاره، “ظل الطلب على المحولات قائماً في المناطق التي ترتفع فيها أسعار الاشتراك، وللاستخدام في ظروف الطوارئ كما في حال أعطال الشبكة أو للإضاءة في الفترة الفاصلة بين انقطاع تيار كهرباء الدولة، وتشغيل المولدات”.
… وتاريخ البدائل هو تاريخ التكنولوجيا
شكلت البطاريات والمحولات نقلة نوعية في الكهرباء البديلة، بسبب رخصها النسبي، وسهولتها، وقلّة حاجتها إلى الصيانة الصعبة والمعقدة، فصار بإمكان المرء الإضاءة وتشغيل التلفاز والأجهزة الخفيفة في حال كان حجم المحول صغيراً وعدد البطاريات محدوداً، أو الأجهزة الثقيلة في حال العكس. إحدى العقبات التي واجهت المواطنين في استخدامهم لمحوّل الـ(APS) تمثلت بالفارق بين طبيعة التيار الكهربائي الذي يولده، وتلك التي تحتاج إليها الأجهزة، ولذلك اضطروا الى استخدام “فيلتر” يعدّل في طبيعة التيار ويمكنهم من تشغيلها بشكل طبيعي، لكن العقبة الأساسية ظهرت أيام الانقطاع الطويل والمتواصل للكهرباء، حيث يتعذر شحن البطاريات لإعادة تشغيلها، وبالتالي فإن ذلك يعني العودة إلى شعلة النار مجدداً! البديل هذه المرة كان حاضراً: مولدات صغيرة يمكن من خلالها الإضاءة وتشريج البطاريات وتشغيل مضخات المياه، وفي الكثير من الأحيان الاستغناء عن البطاريات والمحوّلات وتشغيل المولدات بشكل متواصل. هذه المولدات الصغيرة التي كانت تشغّل لتغذية بيت أو بيتين لم تكن عملية ومريحة، فهي تعمل بالبنزين وتستهلك كمية كبيرة منه، وتحتاج إلى صيانة ومتابعة، كما أنها مصدر للضجيج والدخان الذي يصعب تصريفه بعيداً عن المنازل، بحيث كانت سيارات خاصة بالبلديات والأحزاب تجول في بعض المناطق والأحياء طالبةً إيقافها بعد العاشرة ليلاً.
النموذج الأخير، والأكثر انتشاراً حتى يومنا هذا، بدأ خلال التسعينيات، لكن بتواضع. “كان عندي مولّد واحد، شغّلته بدءاً من عام 1995، لكن الطلب كان قليلاً، وكنا لا نشغّله على مدار الـ 24 ساعة. في تلك الحقبة، تحسنت التغذية بالكهرباء، وأمهلت الدولة أصحاب المولدات ثلاثة أشهر لإزالتها، لكن قصف محطات الكهرباء أثناء حرب عام 1996، عاد ورفع الطلب على الاشتراك” يذكر المهندس حسن ياسين ويكمل: “الطلب على الاشتراك في الضاحية الجنوبية ازداد بشكل كبير بعد حرب تموز، ومن وقتها زدنا عدد المولدات، وبدأنا نؤمن خدمة 24/24”. يرجع ياسين هذا التوجه إلى اهتمام الناس بالأجهزة الكهربائية الكمالية، إضافة إلى السيولة المالية خلال مرحلة الإعمار. يرفض ياسين ما يثار حول تبعيتهم لأحزاب أو منظمات، وإنما بالعكس يبدي استياءه من حزب الله وبلدية حارة حريك “نحن والبلدية على ندية، فتسعيرة البلدية لا تأتينا بتكاليفنا”.
فرض “الاشتراك” نفسه كبديل فعال لكهرباء الدولة، بل لعل الدولة من خلال التسعيرات التي تعلنها واللقاءات التي تعقدها مع أصحاب المولدات صارت هي المساهم الأول في تشريع ما يفترض أن القانون يعاقب عليه. لكن هذا لا يعني أن أصحاب هذه المولدات هم بانتظار هذه الشرعية أو في حاجتها، لقد استقر نفوذهم داخل المناطق والأحياء إلى حدّ تحدّيهم أيّ منافس لهم ضمناً أو علناً، وتوزيع السوق إلى مربعات خاصة بكل منهم كما في بعض المناطق.
الاحتفاظ بشمعة على سبيل الاحتياط
في العديد من البيوت اللبنانية، لنا أن نرى كيف عمد أهلها إلى الاستعانة بأكثر من بديل، إما خوفاً من خلل ما طارئ أو رغبة في التوفير وإشباع الحاجة إلى الكهرباء بأقل كلفة. في بيت ناصر حرب مثلاً، نجد كيف توالف الاشتراك بالـ UPS والـ APS. لقد استخدم ناصر طريقة في تمديد الكهرباء تمكنه من استخدام بيت كهرباء (بريز) واحد لكهرباء الدولة والاشتراك والـ Aps، دون الاضطرار إلى وصل الجهاز ببيت آخر كلما انقطع التيار، أما الـ UPS فقد خصصه للكومبيوتر. في بيوت أخرى، نجد وسائل أكثر تعدداً، كمن يقتني مولداً كهربائياً خاصاً أو ألواح طاقة شمسية. لكن هذا لم يلغ إلى اليوم ضرورة الاحتفاظ بشمعة ولو على سبيل الاحتياط.
واحدة من المشكلات التي تغلّب عليها المواطن ببدائله أيضاً، هي التدني الفولتي لتيار كهرباء الدولة الذي يصل إلى بيوتهم، حيث كان يصل إلى حد الـ (180v) في بعض الأحيان. وهذا ما كان يسبب ضرراً للأجهزة الكهربائية ويصيبها بالعطب، وخاصة تلك التي تحتوي على محركات. لذلك اضطروا إلى تركيب محوّل أو ما عرف بالمنظم، لرفع الفولتاج. أما على صعيد الأجهزة الكهربائية، فقد عمد الناس إلى شراء الأجهزة التي يمكن تشغيلها بأقل قدر ممكن من الطاقة والتي لن تستهلك الكثير من أمبيرات الاشتراك أو المحولات المحدودة، واتجه البعض الآخر بنسبة أقل نحو شراء أجهزة تعمل بالطاقة الشمسية كسخانات ومضخات المياه، التي قد لا يكون أكثرهم سمعوا من البائعين حين اشتروها إلا كلمة “طاقة” قبل أن يضيفوا بانتشاء “نظيفة”.
لا أستطيع تخيل اليوم الذي ستصبح فيه الكهرباء خارج نطاق اهتماماتنا بشكل واضح. لقد طبعت الأزمة بتفاصيلها في وجداننا مذ كنا صغاراً، حين كنا نفكر بحلول لمشكلة الكهرباء والأعطال الكهربائية، كأن نخترع ذراعاً ميكانيكياً يرفع مقبض ديجونتر محوّل كهرباء الدولة خلال نكبات الحر والبرد، أو نراقب بكثير من الخوف والدهشة موظف الصيانة في مؤسسة كهرباء لبنان الذي كنا نهاتفه بشكل شخصي متخطّين بلادة التبليغات الرسمية، معلقاً بالعمود الأصفر، يصلح شريط الكهرباء الذي تفحّم نتيجة الضغط، أو نتحمس لأي ابتكار يشتغل بطاقة ممكنة أو مجانية: المصابيح التي تشحن بفعل حركة اليد، والمراوح واللمبات التي تشحن ثم تشغّل ساعة الانقطاع، وفوانيس الـ LED التي كنا كثيراً ما نحكّها حين يخبو ضوؤها ويشحب، فلا يشتد، ولا يخرج منها كما رغبنا مارد قدير، نسأله أن يفك عنا: لعنة الظلام.