في كل مرة أنتقد حبّ اللبناني بتعطيل الأعمال في مناسبات وطنية ودينية، أُتهم بضيق العين وعدم تقدير المشاعر الوطنية والدينية المرافقة لهذه المناسبات. ولكن أهمّ نقطة في المشاعر الإنسانية هي إيجاد عمل محترم والثبات في لبنان وتحقيق الإنتاج والإبداع والتميّز.
لإيجاد هذا العمل يجب أن نتمسّك بعقلية الإنتاج، عقلية العمل، عقلية أننا بلد مفلس اقتصادياً، وأنّ كل دقيقة إقفال وتعطيل تؤخّرنا وتضرّ باقتصادنا، عقلية أنه إذا أردنا أن نجذب المستثمرين ومشاريع استثمارية جديدة علينا أن نثبت للعالم أننا جدّيون في العمل والإنتاج.
ندأب في كل بداية مرحلة أو عند تشكيل كل حكومة جديدة بوضع خطط ومطوّلات لنعبّد الطريق للعمل الحكومي الجديد، ولا أريد الغوص في حماستنا الكبيرة لوضع الخطط وعدم قابليتنا على تطبيقها، فالخطط الاقتصادية ضرورية ربما ولكنّ الجزء الأساس من المشكلة هو بالتفاصيل بالـ MICRO.، التفاصيل اليومية التي يعجز الخبراء الأجانب عن تحديدها أو وصفها.
باختصار شديد، لبنان اليوم هو بلد غير صديق للمستثمر، باعتراف البنك الدولي. ففي تقييم له لعام 2018 ضمن «تقرير ممارسة أنشطة الأعمال»، الذي يقيس عواملَ أساسيّة تؤثر في القدرة التنافسية، يحتلّ لبنان المرتبة 133 من أصل 190 دولة، وهو دون أداء المملكة العربية السعودية (مرتبة ٩٢) والأردن (مرتبة 103) كما هو دون المتوسط الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويؤكد البنك الدولي في تقريره أنّ «البلد يسير على طريق الهبوط الهيكلي منذ أوائل القرن الحادي والعشرين – فجودة الخدمات العامة والمؤسسات والحوكمة ومناخ الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر، تقلّصت جميعها إلى مستويات سيّئة ما عجز عن تحقيق التميّز في البلاد».
هذا التوصيف من البنك الدولي خطير جداً ولعلّ أخطر ما فيه أنه سيقوم بتهريب أيّ مستثمر يفكر في افتتاح أعمال في لبنان.
ما الذي أوصلنا الى هذا الواقع؟ الأمور الصغيرة هي التي أوصلتنا الى ذلك، التفاصيل اليومية التي ترهق كل صناعي ورجل أعمال ومستثمر، الامثلة كثيرة، العطل الرسمية وإقفال المؤسسات الاساسية كمرفأ بيروت، فكيف نفسّر للمستثمرين أنّ مرفأنا لا يعمل إلّا 6 ساعات في اليوم الواحد وأنه يقفل في كل العطل الرسمية والوطنية والدينية، الخ.
كيف نفسّر للمستثمرين الروتين الإداري المرعب الذي يجعل من أيّ معاملة بسيطة وكأنها رحلة الألف ميل من دون وضوح أو شفافية؟
حتى اللبناني غير قادر اليوم على الدخول الى دهاليز بعض المعاملات الإدارية وفهمها، مثل سمة العمل والعلاقة بين وزارة العمل والأمن العام أو رخصة نقل لفان شركة ورخصة لكتابة إسم الشركة على الفان أو رخصة البناء، أو مثلاً فهم ضرائب صندوق الضمان الاجتماعي وتعويض نهاية الخدمة وكيف يستفيد العامل بأقل من نصف ما يحقّ له من تعويض نهاية خدمة.
كيف سيتقبّل المستثمر الجديد خدمة بريد سريع غير سريعة على الإطلاق وتعرفات غير منطقية؟ كيف سيستمرّ في ظلّ أعلى كلفة اتّصالات في العالم، وأعلى أسعار بطاقات سفر في المنطقة وفاتورتي كهرباء، الخ؟
كيف سيتعامل المستثمر مع دولتنا حين يدرك أنه يلتزم بكشوفاته الضريبية بشكل قانوني في حين هناك ما يقارب الـ40% من الأعمال تحت الطاولة ولا تدفع TVA؟
كيف نقنع المستثمر أنه يدفع الـTVA ولكنه ما زال مضطراً لدفع ضريبة استهلاكية عن طريق الطابع الأميري ودفع العديد من الرسوم والضرائب المستترة، ومنها فُرِض بدون قانون صادر عن مجلس النواب كما يفرض الدستور اللبناني؟
هذه بعض الأمثلة التي يمكن حلّها بدون الحاجة الى خطط، وغالبية الاقتصاديّين يؤكّدون ذلك، وهذا لن يتحقّق من خلال إصلاحات تقوم بها الوزارات المختصة بل من خلال وزارة تعطى صلاحيات عابرة الوزارات، ربما التنمية الإدارية وضمّ مكافحة الفساد اليها، بموضوع واحد ألا وهو علّة العلل الإجراءات Procedures!! وهذه يجب أن تعدّل بدون رأي الموظف المعني لأنّ الموظف لا يمكن أن يكون قاضياً، أما الوزير المعني فلن ينتقص من صلاحيات وزارته مهما كلف الأمر لا سيما وأنه يستطيع أن يتخطّى كل شروط الإجراءات ويُصدر تراخيص مثلاً حتى لو لم تكن قانونية، والأمثلة هنا بالمئات.
أتمنّى أن نلحظ هذا الموضوع ونعطيه حقه كاملاً لأنّ الإصلاحات في الاتّجاه الاقتصادي أي في الـ Macro ضرورية ولكن غير كافية للانطلاق بالثورة الاقتصادية المنشودة.
خَلاصنا اليوم هو في خلق فرص عمل «إنتاج»، تحريك عجلة الإنتاج والمشاريع، إستقطاب الأفكار الجديدة وتحويل لبنان الى مصنع للأفكار والخدمات والصناعات المميّزة، الاستفادة من الرأس المال البشري الذي نمتلكه، من خرّيجينا الذين باتوا يؤمنون أنّ أيَّ فرصة عمل جدّية وواعدة لن تكون في لبنان، إعادة الثقة الى أبنائنا بأنّ أفكارهم قابلة للنجاح، أنّ إبداعهم سيقدَّر وأنهم لن يتحوّلوا الى بضائع للتصدير، نفرح بتحويلاتهم المالية ولا نتحسّر على خسارة عقولهم المبدعة وأفكارهم لتطوير لبنان.
الحاجة اليوم الى وزارة فاعلة للتنمية الإدارية ومكافحة الفساد عبر دمجهما وإعطاء الوزارة صلاحيات واسعة على رأسها اعادة صياغة اجراءات جديدة بدون تدخّل الوزارات المعنيّة، حتى في ما يتعلّق بالقطاع الخاص، وزارة تملك صلاحيات اساسية، يتعرّض وزيرُها للمحاسبة ويفضح التجاوزات والأخطاء وكل مَن يعرقل ويرفض التعاون، وليس وزارة تعطى لإرضاء فريق معيّن أو حقيبة رمزية تُمنح فقط لإكمال التوازن الطائفي داخل الحكومة، وزارة هدفها الأساسي هو رفع تنافسية لبنان بالطرق العلمية.
اليوم التنافسية تساوي البقاء كوطن، وتعني فرص العمل والإنتاج، وخلق مشاريع تنموية وأساسية وإصلاح شبكة الطرق والمواصلات والتمتع بخدمات فعالة.