IMLebanon

.. وما زال الحوار مستمراً!

كأنما مناطق عديدة في العالم وصولاً إلى عندنا مشغولة على قدم وساق وأكثر بالحوارات بين بعضها. فالمسائل متراكمة. والقضايا تصبح «مجهولة» أحياناً، والأبواب مغلقة بلا مفاتيح. لكن هناك تساؤل مُحيّر فعلاً، لا يسعى إلى جواب، بقدر ما يَستحضر «غرابة» تستحضر بدورها العبث، واللامعقول… واللامقول، واللامهموس. ومع هذا ومن باب الفضول (لا المفاضلة) ومن باب «الدهشة» لا المعرفة، يتساءل المرء ماذا يحكي هؤلاء المتحاورون كأطراف وانداد وفرقاء، عندما يعرفون جيداً ان حواراتهم مقفلة سلفاً. وان المسائل موضوع الحوار لم يئن تفكيكها. هل يتحدثون مثلاً عن «الاحترار« المناخي وعن الطقس، وعن الطبخ وعن الأكل الصحي وغير الصحي، أو عما يعانونه، كالسكري أو الضغط، أو البروستات، أو البنكرياس، أو المفاصل… أو عن آخر أفلام كلينت ايستوود، أو آخر أغاني مادونا… أو فيروز أو محمد عبده…. أو عن آخر معرض الأزياء. أو عن الصحافة، والصحافيين. أو يتبادلون الطرائف والنكات… والوصفات الطيبة والطعام والمشرب! كل ذلك ممكن، لتعبئة الوقت، أو لإفراغه، أو لتمضية صُبحية أو سهرية أو ظهرية يبحثون فيها عن الكلام المطلوب ويجدونه في مكان آخر، وفي مضامين أخرى، وعند مقامات أخرى.

الحوار النووي بين الولايات المتحدة وإيران جارٍ منذ سنوات ولكن حتى الآن، لا يبدو انه في مسار المعقول أو الحلحلة الوشيكة. عال! هذا طبيعي. لكن أن يعرف هذان المتحاوران ان الحل بعيد بعد السماء عن الأرض، ويستمرون في الحوار، ثم يُصرّحون بأن هناك تقدماً… وان الحوار مستمر… فهذه بلاغة لوذعية، وفصاحة مُبينة. أما إذا كان التقدّم ممكناً فعلامَ سيتفقون؟ 

ماذا كان يفعل هؤلاء المتحاورون حول النووي طوال الوقت بألوف الساعات من الاجتماعات. ربما كثيراً. لكن الأرجح لا شيء! وحتى الآن لا شيء. الطاولات مفتوحة والأبواب مغلقة ومع هذا نسمع قرعاً على الأبواب، وحفيف أوراق، وأصداء كلام فوق الكراسي، وعلى الطاولات وتحتها ملفات. كأن الحوار هو استمرار الحوار: الحوار للحوار كما الفن للفن. بين رد وأخذ، أو بين رد بلا أخذ. أو بين أخذ بلا رد.

حوار آخر بدا بين نظام بوتين وبين أوكرانيا. حوار القاتل والضحية. الغازي والمغزو. المعتدي والمُعتدى عليه. الأقوى والأضعف. وهل يمكن ان يستوي «حوار» بين طرفين غير متكافئين، احدهما مُهدد ومحاصر من الآخر؟ مع هذا نقرأ ان ثمة حواراً بينهما. حول طاولة وكراسٍ وخرائط ومستندات ووثائق لكن الحوار الآخر الحقيقي في الميدان العسكري الذي قد يحمل الحل.. أو لا يحمله ومع هذا فالحوار… الكلامي مستمر بالصوت والصورة والابتسامة أو العبوس.

[ جعجع وعون

صرح سمير جعجع قبل أيام «ان لا مخرج لموضوع الرئاسة الشاغرة. لأن إيران لا تريد انتخاب رئيس للجمهورية»، وجاء هذا التصريح بعد عدة شهور من الغزل المليح بين القائدين الميدانيين السابقين، وأردف جعجع «لكن أنا مُصّر على رغم انسداد المخرج على الحوار مع الجنرال عون». لكن إذا عدنا إلى الحوار نعرف أن بنده الأساسي والمحوري الوحيد هو موضوع الرئاسة. جعجع مرشح 14 آذار وعون مرشح حزب الله. طيب، إذا كان قد ألغي البند الوحيد موضوع الحديث، فعلام يستمر الحوار؟ صدقوني، انه سؤال غرائبي فضولي، لا يسعى إلى جواب قد يكون غرائبياً. طيّب. ماذا يمكن أن يدور بين الجنرال عون والقائد الميداني السابق عندما يكونان على علم ويقين أن كل كلام يمكن ان ينعقد بينهما هو ما يمكن ادراجه قبل مرحلة الحوار.. أو بعدها: المركز غائب، والمابعد والماقبل هما المسافة الحقيقية التي لا يستطيعان جمعهما! 

هل ترى يستعيد الطرفان ذكريات النضال معاً. وكانت قوية ووثيقة. ام يستعيدان ذكريات الحروب والإلغاء والاتهامات. أم يتبادلون خبريات الضيعة والبلدة من بشري إلى الأشرفية إلى حارة حريك والمتحف… وسوق الغرب ويحنان إلى الطفولة المفقودة واللعب بالكرة أو تسلق الأشجار!

كلام ما بعد الكلام يستمر. جعجع «نعى» بطريقته الحوار الرئاسي مع عون بسبب الفيتو الإيراني (أو هكذا فهمنا).. لكنه اصر على استمرار الحوار! فالحوار مستمر! وما أمتعه! 

[ «المستقبل» و« حزب الله»

أما حوار «الحزب« «وتيار المستقبل« والقائم أيضاً منذ شهور، فهو شغال أيضاً حول قضايا كثيرة من بنودها الأساسية «لجم الاحتقان المذهبي» و»التصدي للارهاب» وحماية البلد وتأييد الجيش، بند فعَلَ فعله. والدليل الاستقرار الظاهر والبادي في لبنان بعد الخطة الأمنية التي ينفذها الجيش وقوى الأمن الداخلي في عدد من المناطق اللبنانية.

البند الأمني لا خلاف عليه حتى الآن والالتفاف حول الجيش إجماع. لكن بند الرئاسة ايضاَ ادرج في جدول الأعمال. وكان ثمة تفاؤل. وتفاؤل مريح و»شد ازر».. وتطمينات. بُحث فعلاً لكن لم يُبحث. 

كأن لم يكن. كيف بُحثت مشكلة شغور الرئاسة بين طرفين: الأول لا يريد حلها أصلاً، والآخر يسعى بكل ما أوتي إلى حلها. كيف يمكن الوصول إلى «نقطة لقاء مشتركة» اذا كان «المنطلق» غير مشترك، ومنفصلاً، وغائباً، وفي مكان آخر. قالها جعجع: إيران لا تريد انتخاب رئيس. وقالها عدد من رموز 14 آذار. وأخيراً، وقبل عدة أيام، صرح احد الناطقين باسم «حزب الحوثيين» في لبنان «بأن يجب حل مسألة الرئاسة مع عون. وكما «يشير» علينا الجنرال ننفذ«! ويوحي هذا التصريح وكأن عون يملك الحل. لكن عون عنده حل واحد: انتخابه شخصياً للرئاسة! ويبدو الأمر عجيباً عندما نتذكر ان حوار جعجع وعون حول الرئاسة هو بين «مرشحين» لها، مطلوب من أحدهما ان يتنازل للآخر. غريب! اذا كانت إيران لا تريد انتخاب رئاسة وحزب الله وكيلها الحصري في لبنان، فعلامَ جرى الحوار حول الرئاسة هل يصل إلى نتيجة؟ تيار «المستقبل» يحاول لكن هل ينجح؟ سؤال تجيب عنه الأسابيع المقبلة.

[ الحكومة

اما في الحكومة فجلسات «وزارية» متلاطمة، حكومة وفاق بلا وفاق. وتضامن بلا تضامن، وأمزجة متعاكرة. وسياسات متضاربة. ورئيس يسعى إلى توافق لا يمس الدستور، وآخرون يسعون إلى حضور ينتهك الدستور: أتكون عدة وزارات «أممية» في وزارة واحدة.. أتكون مجلس كونفدريات ملموماً في كونفدرالية مشققة؟ أيكون استمرارها تكريساً لغياب رئيس للجمهورية ليعتاد الناس فراغ السدة الأولى: فيكون أحد «مرشدي« إيران بديلاً… أو في «أفضل» الأحوال تكون الحكومة بديلة؟ الحوارات شغالة: عندنا داخل المجلس الوزاري، وفي الدوائر الخارجية! لا حوار على الأساسيات. لا مس بالمقدسات. فلتكن وزارة تشبه مجلساً بلدياً! (مع تقديرنا الكبير للإنجازات الأمنية والصحية والاجتماعية لبعض الوزراء الاستثنائيين). لا وزراء في الوزارة لتعميم الفراغ. لا رئاسة لتعميم الفراغ. لا رئاسة حكومة يجب أن تكون رئاسة حكومة. ولا رئاسة مجلس نواب لتكون رئاسة مجلس نواب. مع هذا فالحوارات مستمرة وسط الفراغ، على أن يبقى كل شيء على حاله. ظن بعضهم أنه إذا لم يقم حوار «جدي» في الحكومة بين أطراف النظام فالحوار الحقيقي هو بين الحزب و»المستقبل»… لكن أجندة الحوار شائكة، أولوياتها الأمنية تطمس حلولها الجمهورية. فإذا كانت مسألة سلاح حزب الله في باب «المقدس» و»التحريم»، فيعني أن سلاح حزب الله سيبقى، وعلى الحوار أن يُجانبه في النقاش لكي لا يقع في المحظور. وإذا كان انسحاب الحزب من سوريا غير وارد (أي غير قابل للحوار)، فيعني أن الحزب سيبقى في سوريا دفاعاً عما تبقى من نظام بشار الأسد. وإذا كان تسليم المتهمين الأربعة (أو الخمسة) بالمشاركة في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى السلطات اللبنانية، فيعني أن هذا «الطلب»، هو مس بقدسية هؤلاء. ومس بمن كلفهم المهمة وموّلهم. ولأن هؤلاء المتهمين «ينتمون» إلى «جهاديي» الحزب (من غير شر)، فالمشكلة صارت تمس المسألة الأمنية، وصولاً إلى المقاومة… فوصولاً إلى إسرائيل! أف! فالمسار طويل، ومزروع بالممنوعات، والقديسين، والأولياء… والمرشدين. إذاً، فتسليم هؤلاء غير وارد لا في سنة ولا سنتين ولا في ثلاثمائة سنة، على قول السيد نصرالله! ولا شيء إذاً فكل ما هو متراكم وموضوع خلاف، وضع له حزب «الحوثيين» في لبنان خطوطاً حمراً ونارية وبركانية ممزوجة بالبخور و»رائحة الجنة». طبعاً، كانت الجلسات بين «الحزب» و»المستقبل» مديدة، وأراحت اللبنانيين في ظل الظروف الراهنة، لتجنيب لبنان المآسي، والانتهاكات، وداعش والنصرة… (علماً أن «دواعش» إيران موجودون في لبنان، وكذلك بقايا من دواعش النظام البعثي: «داعش واحد لا داعشان»، «النصرة» واحدة لا «نصرتان»! والإرهاب واحد لا إرهابان أو أكثر (في الحوار، وكل الحوارات يحذف بند «دواعش» لبنان المتمثل بالسلاح الإيراني في الجنوب، وفي البقاع، والضاحية!) وحاشا تشبيه المقاومة… بداعش، أو توصيفها بالإرهاب وإلا زال «هدف الحوار»… وتدركبت الكراسي ونام الكلام المباح… وشهرزاد وشهريار.

[ اليمن

وفي اليمن عدة دواعش «القاعدة» و»الحوثيين» (وخلفهم إيران)؛ وقد جرت حوارات طويلة بين الأفرقاء (تشبه حوارات المستقبل وحزب الله الحوثي من أصل لبناني)، وتمت اتفاقات «جدية» و»توصيات» و»قرارات» وضمانات من قبل الحوثيين، وكاد الجميع يصفق لنجاح هذه اللقاءات «الأخوية الوطنية»، لكن بعد ذلك بدا أن «أنصار الله» (على وزن «حزب الله» جناساً ومضموناً)، عبثوا بكل التعهدات… وبكل شيء، وقاموا بانقلاب وضعوا فيه الرئيس الهادي في الإقامة الجبرية (على غرار وضع نظام الملالي الزعيمين المعارضين الموسوي وكروبي في الإقامة الجبرية… وغداً ربما يأتي دور الرئيس السابق أحمدي نجاد)، وحاصروا مجلس الوزراء (هل تتذكرون 7 أيار! رائع! يا لهذه العقول الانقلابية المُقولبة) وأعلنوا بما يشبه «البيان الأول» استيلاءهم على السلطة وقرارهم تغيير النظام أو السلطة. لا شيء من كل ما اتفق عليه. لا شيء تبقى من ذلك «الهزار» و»الجدل» والقال والقيل… فهي عادة أبناء إيران الأبرار النجباء! في العراق ولبنان، وسوريا واليمن، أن يلحسوا تواقيعهم بكل إباء! هرب الرئيس الهادي ومعه الشرعية إلى عدن! وصدرت مواقف عديدة أن الحل السياسي هو الحل الوحيد. يعني العودة إلى طاولات وكرسي وأوراق الحوار مرة أخرى. يعني العودة إلى تكرار اللازمة الأبدية «والحوار مستمر»… حتى بلا حوار ولا متحاورين.. إلاّ حوار الحوثيين مع إيران من باب التبعية، أو تعلم درس «الحوار المونولوغي» مع أنفسهم.

[ .. و« داعش» 

كل هؤلاء الذين ذكرنا، وجدوا ما «يمكن» اعتباره حواراً (أو لقاء) أو «مصادفة» موضوعية بحسب السورياليين، لكن الطرف الوحيد الجديد على الساحة هو داعش… يرفض الحوار. لا يحتاج إلى حوار مع أحد. لا من هنا ولا من هناك. فساحة الحوارات هي ساحة القتل، والإجرام، والخطف، والدم. لا كلام. ولا من يتكلمون. تَحَاوَر «العالم» كله ضده، وهو رفض «التحاور» مع العالم. فكيف له أن يحاور العالم وهو يكره العالم كله. وكيف يحاور نفسه وهو يكره نفسه، حتى الشهادة! حتى الموت: يقتل الآخر ويقتل نفسه. يفجّر الآخر ويفجّر نفسه. ينحر الآخر وينتحر معه. إنهما المازوشية والسادية مجتمعتان والموت هو البداية لا النهاية. بداية الأبدية. والخلود في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والدماء والجثث والرؤوس المقطوعة. جنة على قياسهم! وهذا ليس جديداً: فهو من إرث القاعدة وبن لادن والظواهري وحديثاً بوكو حرام، وقبلاً الفرق الانتحارية التي أرسلتها إيران والنظام السوري إلى العراق لمحاربة «حلفائهم» الأميركيين، وقتلهم، ليؤدي ذلك إلى انسحابهم واستفراد الملالي بالسلطة. الجديد عن داعش قديم، لكن هذا القديم يتميّز بالصورة (إلى حد ما)، على الطريقة الهوليوودية. والجرائم المتسلسلة: تصوير إحراق الطيار الأردني. وقطع رؤوس بعض الصحافيين، والأسرى، والمختطفين أمام الكاميرات. إنه إعلان «صريح» مرئي، مسموع، بالصورة والصوت واللون… كجزء من استراتيجية إعلامية: الترويع! أما حزب الله، فالصورة الخارجة إلى الإعلام دائماً تجسد «الانتصار» أو شهادة الشهداء. وإذا ارتكب مجزرة فتبقى مخفية. مجازر بلا صوت ولا صورة. اغتيالات بلا اسم. ولا صفة. ممارسة تعذيب الأسرى بنرجسية صامتة غير ظاهرة. وهذه طريقة النظام السوري إلى حد ما: مجازر حمص وحماة في 1982 أدت إلى مقتل نحو 40 ألفاً، لكن الصورة مدفونة مع الضحايا. وخارج السجلات. والتوثيق. وهذا ما كان يفعله ستالين. وهتلر. والخمير الذين خرجوا على القاعدة بتصوير إعدام أسراهم!

داعش تحاور إذاً العالم بالصورة المبينة: «حارِبونا بالطريقة ذاتها«. لذا فهي لا تحتاج لا إلى غرف وصالات اجتماع ولا كراس ولا تصريحات… ولا حوار مستمراً أو غير مستمر. هوليوودية كما يتطلب إعلام اليوم، التكنولوجي، ووسائط الاتصال. لا حل إلا نحن. لا حل إلا بالسيف. وبالنار. القطيعة المحضة. النرجسية الجماعية في أوجها، والفقه القاتل بكل صوره وتعابيره. هكذا نحن نقتل أكثر منهم لأننا بتنا إسلاماً فوق الإسلام! ومؤمنين فوق الإيمان. ها هي الصورة: تفحصوها تجدوا كل الأجوبة.

والفارق بين الحرس الثوري وأنصار الله في اليمن والمجموعات المتحاربة في ليبيا، وحزب الله في لبنان (وسائر فروع سوبر ماركت الإمبراطورية الفارسية)، ليس في الطبيعة، بل في «التقديم».. بل في.. «التشكيل»، أو «الديكور»؛ داعش الهوليوودية تحب «الإثارة» والتشويق والصدمة المباشرة بالصورة.. أما أحزاب إيران فتحب «الكواليس» الديكورات ظاهرة في مسرح مفتوح ومضيء عند داعش، والكواليس المظلمة عند أحزاب الظلمة.

إيران تحاور أمام منصات الاعلام، وتقتل في الكواليس. وداعش يقتل أمام منصات الإعلام ويلغي الديكورات والكواليس… وكلاهما، سواء أهل «العتمة»، أو «أهل الإضاءة»، من طينة واحدة، ومن جِبِلّة واحدة، ومن أرحام واحدة لا تحب سوى الإرهاب والعنف والخراب.

… ولهذا فالحوار شغال مع حزب الله أمام منصات الإعلام… وغائب في الكواليس.

كأن كل حوار معهم ليس أكثر من «جعجعة بلا طحن» كما يقول شكسبير!

ومع هذا علينا أن نردد «وما زال الحوار مستمراً..