تحذيرات متعدّدة انسكبت وتراكمت على أسماع المسؤولين السياسيين حول إمكانيّة تحريك ملفّ المخيمات الفلسطينيّة في مهبّ الوقت الضائع الفاصل بين مرحلة ما قبل الانتخابات الأميركيّة وما بعدها، بالاتجاهات السلبيّة المتأجّجة في صيدا ومحيطها، متخذًا هذا التحريك الصفة المذهبيّة القاتلة. لم تنحصر التحذيرات في المدى الداخليّ اللبنانيّ، فهي في طبيعتها مكشوفة أمام الأميركيين، ومطلّة بدورها من لبنان نحو سوريا مرورًا بجرود عرسال.
خطورة الأمر ليست في «ميكانيزم» التحريك، وهو وارد في كلّ حين، بل في لحظة الفراغ الداخليّ المنكشف على غيوم سوداء داكنة تهيمن على الفضاء اللبنانيّ، وتنذر بخلخلة خطيرة لتوازن بني على استقرار معقول ومقبول يراهن عليه كثيرون في الداخل. معظم الملفّات تقتات من الفراغ ولا تضيف عليه شيئًا، بل تجعله جزءًا من صحراء سياسيّة، يترمّد على أرضها النظام والدولة والوطن بعد ما أمسى كل شيء حطامًا، فنبدو وكأننا ننتقل من مرحلة الحطام إلى السراب. لقد أثبت كثيرون بأنّ العناوين الصداميّة بأطرها السياسيّة والمذهبيّة نقلت الأزمة من طور إلى آخر، اي من أزمة نظام إلى أزمة شراكة، وفي الواقع إنها أزمة وجود مستندة بكليّتها إلى أزمة الشراكة المفقودة.
يشير واقع الأمور، بأنّ إحياء العظام وهي رميم بات مستحيلاً. هذا النظام تآكل هيكله واهترأ بفعل ديمومة الصراعات واستهلاكها لأرض لبنان، فمعظم الفرقاء يتصارعون على سوريا في لبنان، ويتصارعون على لبنان في سوريا، لم يستطع حزب او فريق سياسيّ من أن ينأى بالواقع اللبنانيّ ويطرح لبننة للحلّ، وبظنّ كثيرين إنّ هذا الأمر بات بدوره صعب المنال جدًّا بعد التدفّق الرهيبّ للنازحين السوريين إلى الداخل اللبنانيّ، وتحولّهم من خلال رهان عدد من السياسيين عليهم إلى قوّة ضاغطة على كلّ المستويات تنذر بالانفجار، ناهيك عن وجود خلايا إرهابية راقدة في بيئتهم. ليس هذا سببًا وحيدًا، بل ثمّة سبب آخر متجانس مع العامل الأوّل ومكمّل له، وهو ملفّ المخيمات الفلسطينيّة، وقد أمسى منذ سنة 2000 أي منذ اغتيال القضاة الأربع مأوى لكلّ إرهابيّ، وملجـأ حماية له.
وفي هذا السياق، تظهر إحصاءات أخيرة، بأنّ عدد السوريين النازحين داخل مخيميّ عين الحلوة والميّة وميّة البلدة المسيحيّة في شرق صيدا فاق بنسب كبيرة عدد الفلسطينيين، ويعلّق مصدر سياسيّ قائلاً: «لا يستغربنّ أحد ذلك بفعل التدفق من على المعابر غير الشرعيّة بتغطية من قوى تحتجب تحت جناح الليل، وفي الوقت عينه فإن عدد النازحين بصورة إجماليّة فاق بدوره المليونيّ نازح فيما عدد الشعب اللبنانيّ أربعة ملايين ونصف، ويقول بعضهم لقد بلغ عددهم مليونين ونصف سوريّ، فمن الطبيعيّ أن يلجأ بعضهم إلى مخيم عين الحلوة على وجه التحديد وقد لجأ إليه إرهابيون من أحمد الأسير إلى شادي المولوي إلى آخرين». ويكمل المصدر تعليقه قائلاً: «المرحلة الآن أخطر مما يتصورة امرؤ، الإرهابيون باتوا معولمين أي متواجدين على الخريطة العالميّة، الإرهاب بحدّ ذاته كونيّ يغرس مخالبه وأظافره وأنيابه في جسد العالم كلّه، وهو عمد على إذابة الحدود، فيما منطق الحرب على الإرهاب لا يزال متلاشيًا وهزيلاً. في الوقت عينه أيضًا يرى العالم بأمّ عينه كيف تلك القوى التكفيريّة تقاتل وتقتل وتقوم بعملياتها الإرهابيّة في الحقبة الأكثر تعقيدًا وتأثيرًا على مصير النظام العالميّ ومنه النظام المشرقيّ برمّته، والمحشوّة بعناوين بارزة كالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة وهو بدوره حتى الآن لم يقوَ عليها، وبعض الدول لا تزال تراهن عليها كورقة استثمار فاعلة ومؤثّرة، فتعود بالفائدة على مستثمريها، لكنّ الرهان بحدّ ذاته ما يلبث أن يتلاشى أمام وحشيّة إرهابها، حيث ذبحت كاهنًا فرنسيًّا عابدًا لربه هو الأب جاك هامل، واقتحمت مجمّعًا في ميونيخ ألمانيا وأزهقت الأرواح فيه كما قتلت الناس عمدًا ودهسًا في نيس فرنسا بواسطة شاحنة مستغلّة الوقت الضائع. والعالم حتى الآن لم يقوَ عليها.
وغالبية المراقبين والكلام للمصدر أيضًا تقرّ بأن الإطاحة بتلك المنظمات في سوريا يقود إلى الإطاحة بها على مستوى العالم كلّه بمعنى أنّ مصدر ترتيب النظام الجديد واستقراره يكمن في الحسم الميدانيّ في سوريا. لكن يبقى أن نظرح سؤالاً: كيف سيواجه لبنان تلك المعضلة على الأرض إذا ما تحرّك الإرهاب في المخيمات الفلسطينيّة ومنها نحو الجنوب باسره وتلازم ذلك مع تحرّكه في جرود عرسال وصولاً إلى عرسال نفسها ومحيطها، هل الحكومة اللبنانيّة قد أعدّت استراتيجيّة واضحة لتفعيل منطق المواجهة سواء عبر الدفاع عن النفس أو عبر منع الفتنة من الاشتعال من جديد أو عبر اقتلاع الإرهاب من جذوره بموقف وطنيّ صلب ومتين، والذهاب نحو التفاوض أو التباحث مع سوريا لترتيب أوضاع المخيمات وإعادة النازحين إلى القرى المستقرّة أمنيًّا وعسكريًّا؟
واستنادًا إلى كلام المصدر السياسيّ وسؤاله الأخير، تتوقّع جهات أمنيّة شيئًا خطيرًا يجول في الأفق، وهي تترصده بقوّة في ظلّ تلك المرحلة الشديدة الحرج على كلّ المستويات. وتنظر اوساط بارزة إلى طاولة الحوار كواحة أمل ومرحلة يجب أن تعلو على الحجب المانعة من الوصول إلى حسم معظم العناوين المتراكمة بصورة فوضويّة وخطيرة، وتنصح تلك الأوساط بضرورة النقاش الهادئ والمتبحّر ليس حصرًا في مسألة الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة وهي قضيّة جوهريّة لا تقلّ خطورة عن باقي القضايا المثارة والمعقّدة، بل أيضًا في مسألتين بالغتيّ الدقّة.
1-مسألة النظام السياسيّ الحاليّ: النقاش هنا يجب أن يخلو من المآرب والأهواء، وأن يعلو عن تفاصيلها وجذب المناخ نحو النقاش العلميّ الدقيق. السؤال الملحّ بأطروحته، هل هذا النظام لا يزال يتمتّع بطاقة الحياة في ظلّ الأزمة الكيانيّة والوجوديّة، أو أنه هوى وتدحرج نحو واد سحيق لا قاع له؟ هذا نظام لم يعد صالحًا للحياة. ويعرف معظم السياسيين والمراقبين، بأنّ المنطقة مقبلة بجملتها على مؤتمر تكوينيّ جديد، سيؤدّي بحجمه إلى إبطال مفاعيل سايكس-بيكو واستبدالها بخطوط جديدة سترتكز على مفهوم الدول، ولكن الدول الراعية للامركزيات السياسيّة والإداريّة هنا وثمّة، قد تدمج مناطق بمناطق اخرى لا سيّما تلك الحدوديّة لكونها تتسربل وشاحًا مذهبيًّا أو طائفيًا ضمن منطق الأكثريّة. معظم الأنظمة في ما سمي ببرّ الشام أو الهلال الخصيب، والمتحوّلة بفعل سايكس-بيكو إلى أنظمة، مدعوّة إلى هذا الحراك الجديد بعد الحسم الميدانيّ على الأرض، وقد بدأت عناوينه وأفقه تتبلور شيئًا فشيئًا، أفيكون لبنان بعيدًا عنه؟ وفي ظنّ كثيرين، لو كان اللبنانيون متبصّرين بما فيه الكفاية، لحوّلوا طاولة الحوار إلى بداية مرحلة تهيّئ اللبنانيين لقراءة تكوينيّة للنظام السياسيّ تنشأ من خلالها تسوية داخليّة تشمل رئاسة الجمهوريّة وقانون الانتخابات واللامركزيّة الإداريّة، فيتم توفير الوقت الفاصل بين حقبة وأخرى وتعبئته بحسم تلك العناوين، وإحياء منطق الشراكة بناءً على أسس ومعايير جديدة، تقود نحو التوازن المنهجيّ في العلاقة بين المكوّنات، وتجسّد المناصفة الفعليّة، فلا تستولدنّ طائفة اخرى في كنفها بل الجميع واحد في شراكة كاملة لا يمسّها سوء او اختلال.
2-مسألة الأمن المتفلّت، وهي اخطر ما يمكن ان نواجهه بعد بروز معلومات دقيقة تشير إلى استيقاظ عدد من الخلايا وانسيابها في عدد من الأحياء بوجوه متنكرة (قد تكون بلا لحى). وتشير المعلومات إلى دور المخيمات الفلسطينيّة باحتضان الخلايا، فتستهلكها كمحطة أو مطيّة تنطلق منها لتنفيذ أهدافها في مناطق عديدة. أمام ذلك تنظر أوساط سياسيّة إلى هذه المسألة كعنوان خطير يتمسرح في لحظة عدم حسم النقاش السياسيّ حول ماهية النظام السياسيّ ودوره، وحول رئاسة الجمهوريّة وقانون الانتخابات وما إلى ذلك. وتخلص تلك الأوساط بأنّ تلك الطاولة مدعوّة للخلوص إلى أمرين لا ثالث لهما:
أ-حسم النقاش السياسيّ، ولبننة الحل وفقًا لما هو مقترح.
ب-حضّ الجيش بضرب الإرهاب من جذوره، وتحفيز السلطة السياسيّة والقوى الأمنية على تنقية مخيمات النازحين السوريين من تلك الخلايا فضلاً عن المخيمات الفلسطينيّة.
متى حسم النقاش هنا، يكون لبنان قد بلغ المنعطف السليم للحلول، وفتحت الطريق أمام الحلّ الشامل في المنطقة، وقد كان في مرحلة معينة من تاريخه شرق أوسطَ صغيرًا. يبقى سؤال: هل الطبقة السياسيّة على استعداد لخوض تلك المغامرة، وهل أعطي لبنان الضوء الأخضر لعملية الحسم وتكوين نظام جديد؟
هذا هو المحكّ المنتظر في الحوار الثلاثيّ الأيام.