Site icon IMLebanon

نصرالله والمرشح الوحيد والنظام الدكتاتوري

 

سقطت الجماهيريات الشعبية وعاشت الدول الملكية

 

يتمسّك «حزب الله» بموقف واضح: أن يكون هناك مرشح وحيد لرئاسة الجمهورية يسمّيه هو ويقبل به الآخرون. هذا الموقف يشبه ما كان عليه الوضع في عدد من الدكتاتوريات في دول كثيرة حيث لا يكون هناك إلا حزب قائد ومرشّح واحد لرئاسة الجمهورية ينتخبه الشعب بأكثرية تقارب المئة في المئة. أنظمة عربية كثيرة مشت على هذا الطريق وأسماء كبيرة سادت عليها وتسيّدت ولكنها انتهت. فهل يستطيع «الحزب» أن يمشي عكس مسار التاريخ؟

 

بعد ثلاثين عاماً على تبوّئه سدة القيادة في «حزب الله» استطاع السيد حسن نصرالله أن يتحوّل إلى مرتبة القائد الرمز وقد وصل الأمر لدى أتباعه إلى إسباغ شيء من القداسة والروحانية الدينية على قيادته وهامته وعباءته. يطلّ من على منبر ضخم بصورة متوّجة بكل هالات التكريم والعظمة، بينما يجلس مريدوه تحت المنصة لينظروا إليه ويستمعوا إلى خطاباته، وهم يتطلعون إلى الأعلى لأنّه هو الأعلى الذي لا ثاني له بينهم.

 

صورة نصرالله القيادية تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه صور زعماء عرب كبار وصلوا إلى القيادة عبر انقلابات عسكرية وأمسكوا بالسلطة الكاملة طوال أعوام، ولكنّهم انتهوا وانتهت الجمهوريات «الملكية» التي حكموها إلى مراحل من الضياع. يأتي نصرالله من تجربة حزبية تحاول أن تفرض سيطرتها على كامل الدولة والنظام. ومن تجربة حكم ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية في إيران.

 

كما كان الإمام الخميني «مقدّساً سرّه» في تأسيس هذا الولاية وفي حكم بلاد فارس يتمّ نقل هذه التجربة إلى لبنان عبر نصرالله. ولكن تجارب الحكم في العالم العربي أثبتت أن الأنظمة الثورية التي تشبه اليوم ما يحاول «حزب الله» أن يثبّته في لبنان، انتهت بطرق مأسوية ودموية، بينما الأنظمة الملكية، أو الأميرية، التي ثارت عليها استمرت وشهدت الدول التي تحكمها ازدهاراً كبيراً ولا تزال. وما يحاول «الحزب» أن يطبّقه في لبنان يبقى استمراراً للتجربة السورية التي لم تشهد نهايتها بعد وتطبيقاً للتجربة الإيرانية التي لا تزال تُحكم سيطرتها على إيران وتحاول تصديرها إلى الدول المجاورة منذ أربعة وأربعين عاماً.

 

القائد الخالد

 

كان أدولف هتلر زعيم الحزب النازي في ألمانيا أكثر التجارب سوءاً وحفراً في ذاكرة الشعوب والدول الغربية. فالجندي الذي تسلّق مواقع القيادة بعد أعوام قليلة على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، أخذ ألمانيا إلى هزيمة ثانية في الحرب العالمية الثانية. هذا الرجل استطاع أن يحكم ألمانيا بقوة ويتحكّم بمصيرها وتمكّن من أن يجرّ الشعب وراءه ويُعميه عن الحقيقة والكارثة التي كان يقوده إليها. لم يعِ الشعب الألماني قوة هذا الإنهيار إلا بعد فوات الأوان وهو لا يزال يعاني حتى اليوم من هذه التجربة ومن تداعيات قيادة هتلر والحزب النازي الذي لا يزال محظوراً ومنبوذاً. الكارثة التي صنعها هتلر اجتاحت أوروبا كلها وهي لم تخرج منها بعد. التجارب الثورية العربية ولدت وعاشت وطغت على رغم تجربة هتلر. تكوّن العالم العربي على أنقاض حربين عالميتين. بعد الحرب العالمية الأولى ولدت نواة دول جديدة بعد انتهاء عصر السلطنة العثمانية وبعد الثانية بدأت هذه الدول تتكوّن وتستقلّ. سبع دول أسّست جامعة الدول العربية: لبنان ومصر وسوريا والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن والأردن. اللافت في الموضوع أنّ خمساً من هذه الدول كانت أنظمتها ملكية: الأردن في ظل قيادة الملك عبدالله الأول الهاشمي. ومصر في ظل الملك فاروق. والسعودية في ظل الملك سعود بن عبد العزيز. والعراق في ظل حكم الملك فيصل الأول. واليمن في ظل حكم الإمام يحيى حميد الدين.

 

بينما استقلت دول عربية أخرى تباعاً. في 24 كانون الأول 1951 أعلنت ليبيا استقلالها تحت اسم المملكة الليبية المتحدة بنظام ملكي دستوري تحت حكم الملك إدريس السنوسي. والمغرب استقلت عام 1956 تحت حكم الملك محمد الخامس. ودول الخليج من الكويت عام 1961 إلى الإمارات التي توحدت عام 1971، والبحرين عام 1971 وسلطنة عمان عام 1951 وقطر عام 1971. بينما استقلت تونس عام 1956 برئاسة الحبيب بورقيبة، والجزائر عام 1962 في ظل صراع على الحكم بين قادة الثورة حسمه هواري بومدين ضد رفيقه أحمد بن بلا.

 

إنقلابات وجماهير

 

من المفارقات التلازم بين الحكميْن في لبنان وسوريا. جمهوريتان استقلّتا عام 1943 بعد ثلاثة وعشرين عاماً من الإنتداب الفرنسي. ولكن مستقبلهما كان مختلفاً. منذ البداية رفض النظام السوري استقلال لبنان وبقي يعتبره محافظة سلبها الإستعمار. هذه النظرية لم تسقط على رغم تبدّل الأنظمة في دمشق.

 

منذ العام 1949 بدأت الأنظمة تتهاوى ليعاد تركيب صورة المنطقة. دخلت دمشق بعد انقلاب حسني الزعيم مراحل من الإنقلابات المتتالية وصولاً إلى انقلاب حزب البعث في العام 1963 وتسلّم حافظ الأسد السلطة عام 1970 أيضاً بانقلاب عسكري. ولكن أبرز تجربة سلطوية كانت في مصر مع انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في 23 تموز 1952. وإذا كانت الإنقلابات في دول أخرى بقيت محلية الطابع فإنّ عبد الناصر حاول تصدير ثورته «الإشتراكية» في ظل حملات شرسة ضد الأنظمة التي كان يعتبرها رجعية وموالية للغرب والإستعمار.

 

نجح عبد الناصر في التحكم بالسلطة في مصر بعد الإطاحة بالرئيس اللواء محمد نجيب عام 1954 وتحوّل إلى التدخل في الدول الأخرى. فرض الوحدة على دمشق. واصطدم بالرئيس كميل شمعون في لبنان. وبعدما اعتبر أنه نجح في التخلص من النظام الملكي في العراق عام 1958 اصطدم مع قائد الإنقلاب العقيد عبد الكريم قاسم، ولم يتفق مع العقيد عبد السلام عارف، الذي انقلب على قاسم قبل أن تؤول الرئاسة إلى البعث بانقلاب عسكري عام 1968 أوصل بعد عشرة أعوام الرئيس صدام حسين إلى الرئاسة.

 

اعتبر عبد الناصر أنه انتصر في اليمن بعد انقلاب العقيد عبدالله السلال عام 1962 وعمل مباشرة على هزّ نظام الحكم في المملكة العربية السعودية. وتبنّى الإنقلاب الذي أوصل العقيد معمر القذافي إلى الحكم في الجماهيرية الليبية على أنقاض الملكية عام 1969. وتبنّى انتصار الثورة الجزائرية التي دعمها بالمال والسلاح. وقسم العالم العربي بين فسطاطين: الأنظمة الثورية الشعبية التحررية والأنظمة الإستعمارية العميلة للغرب. ولكن التجربة انتهت بوفاة عبد الناصر في 28 أيلول 1970 لتدخل بعدها مصر والعالم العربي في تجارب قاتلة وموجعة.

 

فوضى الربيع

 

انتهى نظام عبد الناصر في مصر ليحل محله نظام الرئيس أنور السادات وينقلب عليه. وبعد اغتياله عام 1980 انتقلت مصر إلى حكم الرئيس حسني مبارك الذي استمر حتى ثورة الربيع العربي عندما تخلى عن السلطة عام 2011 لتمر القاهرة بعده بتجربة رئاسة الرئيس محمد مرسي من الإخوان المسلمين وسقوطه بشبه انقلاب عسكري نفّذه الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. بقيت تجربة مرسي عابرة في تاريخ طويل منذ العام 1952 حيث توالى على حكم مصر أربعة ضباط: عبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي ومن دون أن تدخل مصر بعد مرحلة الإستقرار الآمن أقتصادياً وسياسياً، ومن دون أن تعود إلى لعب دور القيادة الأبرز على مستوى العالم العربي.

 

تجربة القذافي في ليبيا انتهت إلى كوارث. قُتل القذافي في الشارع في 20 تشرين الأول 2011، بعدما فرّ من قصره، أو خيمته، تحت ضغط ثورة شعبية لم تبلور حكماً بديلاً بعد. كان أبرز العلامات الفارقة في تاريخ ليبيا والثورات العالمية وسيبقى مثلاً على حكم الطاغية الفاشل.

 

في العراق انتهى حكم صدام حسين تحت مقصلة الإحتلال الأميركي عام 2003. القائد الخالد الذي أنهك الجمهورية الإسلامية في إيران وحاول احتلال الكويت بقي الرئيس الدائم للعراق منذ العام 1979. بعده لم يعرف العراق الإستقرار بعد.

 

حرب سوريا

 

في سوريا انتهى حكم حافظ الأسد عام 2000 بعد ثلاثين عاماً من التفرد بالسلطة. بعده انتقلت الرئاسة إلى ولده بشار الذي لم يبدِّل طريقة حكم والده. منذ العام 2011 دخلت سوريا في حروب داخلية مدمرة مزّقتها مناطق نفوذ واحتلال وعلى رغم ذلك بقي الأسد رئيساً منتخباً ممدداً له أربع مرات من دون أن يكون له أي منافس.

 

تجربة تونس لم تكن أفضل مع حكم زين العابدين بن علي الذي وصل إلى السلطة بانقلاب أبيض أطاح الرئيس بورقيبة الذي كان يُعتبر مواليا للغرب. انتهى حكم بن علي في 14 كانون الثاني 2011 مع طلائع الربيع العربي الذي بدأ من تونس. بعد 12 عاماً لا تزال تونس تبحث عن استقرار غالي الثمن.

 

الجزائر دفعت ثمناً غالياً بعد رئاسة الشاذلي بن جديد عشرة أعوام من الثورة الإسلامية المسلحة بين عامي 1992 و2002 قبل رئاسة عبد العزيز بوتفليقة عام 2004 والإطاحة به عام 2019.

 

في اليمن انتهت ثورة السلال وانتهى معها وتوحد اليمنان الشمالي والجنوبي ثم انقسما ثم توحدا. كادت تجربة السلّال تتكرّر مع الحوثيين ولكنّ التدخّل السعودي وضع حدّاً لمحاولتهم السيطرة على كامل اليمن الذي يئن تحت ظروف حروب متواصلة وعدم استقرار.

 

في مصر وسوريا والعراق وتونس والجزائر واليمن وكل الأنظمة التي أعلنت ثوريتها لم يكن هناك إلا حكم الفرد الواحد والمرشح الواحد لرئاسة الجمهورية. وحدها الدول الملكية بقيت مستقرة. المغرب والأردن والسعودية والكويت والإمارات وقطر وسلطنة عمان… طوّرت أساليب الحياة الإجتماعية والسياسية في ظلّ النظام القائم وإن كانت تعتمد طرقاً خاصة نظامية لانتقال السلطة وتكوينها.

 

تجربة نصرالله

 

بعد كل هذا التاريخ يحاول «حزب الله» أن يفرض على لبنان نظاماً يشبه النظام في سوريا وإيران وما كان عليه في دول الثورات الشعبية والإشتراكية. يريد أن يطبّق حكمه المباشر في ظلّ دستور الطائف من خلال التحكم بكل تفاصيل الحياة السياسية وفرض مرشح وحيد لرئاسة الجمهورية كبشار الأسد في سوريا. إنّه مسار معاكس لمسار التاريخ. إذا كانت كل الدكتاتوريات انتهت إلى الفوضى وأثبتت قدرتها على فرض السلطة من دون إي اعتبار للديمقراطية والحياة السياسية، فإنّ مثل هذه الدكتاتوريات غير قابلة للحياة والتطبيق في لبنان الذي بقي بعيداً عنها ونموذجاً معاكساً حتى في عهود الجمهوريات الشعبية منذ أيام عبد الناصر إلى ايام آخر هؤلاء في سوريا بشار الأسد. يستطيع نصرالله أن يكون القائد الأبدي لحزبه ولكنه لا يمكن أن يفرض نظامه على لبنان.